الأحد، 2 أكتوبر 2011

الفصل الثاني: الكذب على وجه العموم

الفصل الثاني: الكذب على وجه العموم
المبحث الأول: حكم الكذب
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ( ): ((قد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، وإجماع الأمة منعقد على تحريمه مع النصوص المتظاهرة...)).
ثم قال رحمه الله: ((ويكفي في التنفير منه الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة  )) قال: قال رسول الله : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))( ).
المبحث الثاني: الترهيب من الوقوع في الكذب على وجه العموم
قال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( ).
وعن عبد الله بن مسعود  عن النبي  قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً))( ).
وفي رواية لمسلم: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كَذَّاباً))( ).
وقد بوّب البخاري في صحيحه بترجمةٍ قال فيها: ((باب ما يمحق الكذبُ والكتمانُ في البيع))، ثم ساق الحديث الذي رواه حكيم بن حزام  عن النبي  أنه قال: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا- أو قال حتى يتفرَّقا - فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما))( ).
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت النبي  يقول: ((ويلٌ للذي يُـحَدِّثُ بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويلٌ له،
ويلٌ له))( ).
وفي حديث سمرة بن جندب الطويل الذي فيه رؤيا النبي  قال فيه: ((... لكنِّي رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد - قال بعض أصحابنا عن موسى: كلوب من حديد يدخله في شدقه- حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا قالا: انطلق...)) وفي آخر الحديث قال : ((قلت: طوّفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت قالا: نعم، أما الذي رأيته يُشقّ شدقه فكذاب يُـحَدِّثُ بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة...)) ( ). وفي رواية للبخاري أنه قيل للنبي : ((.. وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجل يغدُو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق))( ).
وعن أبي هريرة  عن النبي  أنه قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) ( ).
المبحث الثالث: الكذب في الرؤيا أو الحُـلْم
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي  قال: ((من تحلَّم بحُلم لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرُّون منه صُبَّ في أُذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عُذِّب وكُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ))( ).
المبحث الرابع: ما يباح من الكذب
عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله  يقول: ((ليس الكذَّابُ الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيراً))( ).
وفي رواية لمسلم عن أم كلثوم أيضاً: ((ولم أسمعه يُرخِّص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: بمثل ما جعله يونس من قول ابن شهاب)) ( ).
قلت: وقول ابن شهاب هو ما رواه مسلم عن ابن شهاب أنه قال: ((ولم أسمَعْ يرخّص في شيء مما يقول الناسُ كذبٌ إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس،وحديث الرجل امرأته،وحديث المرأة زوجها)) ( ).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((وهذا الحديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماء ما يُباح منه، وأحسن ما رأيته ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى قال: ((الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام، لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصّل إليه بالكذب ولم يكن بالصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً.
فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذبُ بإخفائه، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة، وسأل عنها ظالم يريد أخذها وجب عليه الكذب بإخفائها... ولو استحلفه عليه لزمه أن يحلف ويورّي في يمينه... وهذا إن لم يحصل الغرض إلا بالكذب، والاحتياط في هذا كله أن يورّي [في يمينه]، ومعنى التورية أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ، ولو لم يقصد هذا بل أطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الموضع... وكذا كلما ارتبط به غرض مقصود صحيح له أو لغيره، فالذي له مثل: أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ليأخذه فله أن ينكره، أو يسأله السلطان عن فاحشة بينه وبين الله تعالى فله أن ينكرها... وأما غرض غيره فمثل أن يُسأل عن سر أخيه فينكره ونحو ذلك... وينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضرراً فله الكذب وإن كان عكسه، أو شكّ، حرم عليه الكذب...)) ( ).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: بعض ما رُويَ عن السلف من المعاريض التي تخلصوا بها من الكذب، ومن هذه المعاريض ما يأتي:
1- رُويَ عن عمر بن الخطاب  أنه قال: ((إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب)) ( ).
2- وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم)) ( ).
3- وقال بعض السلف كان لهم كلام يدرؤون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا( ) .
4- وقد رُويَ أنه لقي رسول الله  طليعة للمشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون: ((ممن أنتم؟ فذُكِرَ أن النبي  قال: ((نحن من ماء)) فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: أحياء اليمن كثيرة لعلهم منهم، وانصرفوا)) ( ).
5- والمراد  بقوله:(نحن من ماء) قوله تعالى:خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ( ).
6- وكان حمّاد رحمه الله تعالى: إذا جاء من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ((ضرسي ضرسي)).
7- وسُئِل أحمد عن المروزي وهو عنده ولم يُرِدْ أن يخرج إلى السائل

فوضع أحمد أصبعه في كفه وقال: ليس المروزي هاهنا وماذا يصنع المروزي هاهنا..؟
ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أن الحيل ثلاثة أنواع:
النوع الأول: قربة وطاعة وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
النوع الثاني: جائز مباح لا حرج على فاعله، ولا على تاركه، وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته.
النوع الثالث: محرم، ومخادعة لله تعالى ورسله، متضمن لإسقاط ما أوجبه وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حرّمه، وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع... ( ).
  


ليست هناك تعليقات: