الفصل الرابع: وجوب حفظ اللسان
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((اعلم أنه ينبغي لكل مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام، أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء))( ). وقد قال النبي الكريم : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))( ).
قال الشاعر:
احفظ لسانك أيها الإنسان
لا يلدغنَّك إنه ثعبانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب لقاءَه الشجعانُ
وقال الآخر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه
وليس يموت المرءُ من عثرةِ الرِّجلِ
فعثرته بلسانه تُذْهِبُ رأسه
وعثرته برجله تبرأ على مهل
فينبغي للإنسان المسلم أن لا يخرج لفظةً ضائعة، فعليه أن يحفظ ألفاظه بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلَّم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوت بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه، وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان، فإنه يُطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى. قال يحيى بن معاذ: ((القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلو وحامض وعذب، وأجاج، وغير ذلك وَيُبَيِّن لك طعم قلبه اغتراف لسانه))( ) أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقة ذلك، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك.
ومن العجب: أن الإنسان يهون عليه التَّحَفُّظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك من المحرمات، ويصعب عليه التحرّز من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدِّين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقى لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي... وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى ما رواه مسلم من حديث جُندب قال: قال رسول الله : ((قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال
الله : من ذا الذي يتألَّى عليّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك))( ).
فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء الله أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله.
وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله:((يوم حار ويوم بارد)).
ولقد رُؤيَ بعض الأكابر من أهل العلم في النوم فسئل عن حاله فقال: أنا موقوف على كلمةٍ قلتها، قلت: ما أحوج الناس إلى غيث، فقيل لي: وما يدريك؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي.
وقال بعض الصحابة لجاريته يوماً: هاتي السفرة نعبث بها، ثم قال: أستغفر الله ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمُها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام، أو كما قال( ).
وقال ابن بريدة رأيت ابن عباس رضي الله عنهما آخذاً بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم، أو اسكت عن سوءٍ تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم، فقيل له: يا ابن عباس لِمَ تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان أراه قال: ليس على شيءٍ من جسده أشد حنقاً وغيظاً يوم القيامة منه على لسانه، إلا من قال خيراً أو أملى به خيراً( ).
وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لساني( ).
وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر عمله( ).
واعلم أن أيسر حركات الجوارح حركة اللسان،وهي أضرّها على العبد.
واختلف السلف والخلف هل يُكْتَبُ جميع ما يلفظ به أو الخير والشرّ فقط؟ على قولين: أظهرهما القول الأول.
واعلم أن في اللسان آفتين عظيمتين، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى:
آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كلُّ منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها.
فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله، ومراء مداهن إذا لم يخف على نفسه.
والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً أن تضرّه في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به( ).
ولهذا جاء رجل إلى النبي فقال: عظني وأوجز فقال : ((إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودِّع، ولا تكلّم بكلام تعتذر منه غداً، وأجمع اليأس ممّا في أيدي الناس))( ).
فهذه الوصايا الثلاث يا لها من وصايا، إذا أخذ بها العبد تمت أموره وأفلح( ).
ولهذا قال عقبة بن عامر : يا رسول الله، ما النجاة؟ فقال : ((أمسك عليك لسانك، وليسعْك بيتُكَ، وابكِ على خطيئتك))( ).
وينبغي للمسلم أن يشغل لسانه بذكر الله تعالى، وما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة؛ فإن من لم يشغل نفسه، ولسانه بالخير، انشغل وأشغله لسانه، وأشغلته نفسه بما يضرّه.
كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة
إلا الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما قال فيه حدَّثنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين
هذا وأسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجعل أعمالنا خالصة لوجه الكريم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن ينفعنا بما علّمنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ* وَالْـحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَـمِينَ ( ).
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق