الأحد، 2 أكتوبر 2011

الفصل الثالث: شهادة الزور

الفصل الثالث: شهادة الزور
المبحث الأول: تعريف الزّور
الأصل في الزور، تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يُخَيَّل إلى من يسمعه أو يراه أنه خلاف ما هو به.
والشرك قد يدخل في ذلك؛ لأنه محسّن لأهله حتى قد ظنُّوا أنه حق وهو باطل. ويدخل فيه الغناء؛ لأنه أيضاً مما يحّسنه ترجيع الصوت حتى يستحلّ سَامِعُهُ سَمَاعَه.
والكذب أيضاً: قد يدخل فيه؛ لتحسين صاحبه إياه حتى يظن صاحبه أنه حق.
فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور؛ فإن كان ذلك كذلك فأولى الأقوال بالصواب... أن يقال: إن الزور كل باطل سواء كان ذلك، شركاً، أو غناء، أو كذباً، أو غيره، وكل ما لزمه اسم الزور؛ لأن الله عمّ في وصفه عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يُخصّ من ذلك شيئاً إلا بحجة( ).
المبحث الثاني: الترهيب من الوقوع في شهادة الزور
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْـهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ).
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ).
وقال : وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ( ).
وقال سبحانه:  وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( ).
وقال : وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ).
وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ).
وقال : وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لله ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ( ).
وقال سبحانه: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ( ).
وقال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( ).
وقال : قُلْ إِنَّـمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَـمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( ).
قال الإمام عبد الرحمن بن الجوزي - رحمه الله تعالى -: ((قوله تعالى:
وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ  عامٌّ في تحريم القول في الدين من غير يقين )) ( ).
وعن أبي بكرة قال: قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وجلس وكان متكئاً فقال: ((ألا وقَولُ الزور)) فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت( ).
وعن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى النبي  الصبح فلما انصرف قام قائماً فقال: ((عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله  ثم تلا هذه الآية:
فَاجْتَنِـبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِـبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ))( ).
وعن أنس  قال: سُئلَ رسول الله  عن الكبائر قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور))( ).
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: ((باب ما قيل في شهادة الزور لقول الله ))، والذين لا يشهدون الزور، وكتمان الشهادة لقوله تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ).
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه باباً قال فيه: ((باب لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهِد)).
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله. ثم بدا له فوهبها لي. فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي ، فأخذ بيدي وأنا غلام فأتى بي النبي  فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا، قال: ((ألك ولد سواه؟)) قال: نعم، قال فأراه قال: ((لا تشهدني على جور))، وفي رواية: ((لا أشهد على جور))( ).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال عمران: ((لا أدري أذكر النبي  بَعد قرنين أو ثلاثة)).
قال النبي : ((إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن))( ).
وعن عبيدة عن عبد الله  عن النبي  قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)).
قال إبراهيم: ((وكانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد))( ).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:جاء أعرابي إلى النبي  فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال:((الإشراك بالله))،قال: ثم ماذا؟ قال:((ثم عقوق الوالدين))،قال: ثم ماذا؟ قال:((اليمين الغموس))، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئٍ مسلم هو فيها كاذب))( ).
واليمين الغموس سُمّيت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، ولا كفّارة فيها؛ لأنها يمين غير منعقدة؛ ولأن المنعقد ما يمكن حلّه، ولا يَتَأتَّى في اليمين الغموس البر أصلاً( ).
وعن أبي هريرة  عن النبي  قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه، وشرابه))( ).
فنجد أن الله تبارك وتعالى حرّم شهادة الزور؛ لكونها سبباً لإبطال الحق، وحرم كتمانها؛ لكونه سبباً أيضاً لإبطال الحق( ).
المبحث الثالث: ما يترتب على شهادة الزور من الجرائم
شهادة الزور عظيمة الخطر والضرر؛لأنه يترتب عليها جرائم كثيرة،منها ما يأتي:
1- تضليل الحاكم عن الحق والتسبب في الحكم بالباطل؛لأن الحكم ينبني على أمور منها:((البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فإذا كانت البينة كاذبة أثَّرت على الحكم،فكان بخلاف الحق،والإثم على الشاهد؛ولذلك قال النبي :((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ،ولعلّ أحدَكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي له نحو ما أسمع)) ( ).
2- الظلم لمن شهد له؛ لأنه ساق إليه ما ليس بحق بسبب شهادة الزور، فوجبت له النار لقول النبي : ((إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها))( ) .
3- الظلم لمن شهد عليه حيث أخذ منه ماله أو حقه بالشهادة الكاذبة، فيتعرض الشاهد بذلك لدعوة المشهود عليه بغير الحق ظلماً، ودعوة المظلوم مستجابة لا تُـرَدُّ، وليس بينها وبين الله حجاب كما قال النبي : ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم...)) وذكر منهم ((... دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الربُّ: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين))( )،وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة))، فقال له رجلٌ: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن قضيباً كان من أراك))( ).
4- تخليص المجرمين من عقوبة الجريمة بالشهادة الباطلة،وذلك يسبب للناس الرغبة في ارتكاب الجرائم اتكالاً على وجود شهادة الزور.
5- يترتب على شهادة الزور انتهاك المحرمات، وإزهاق النفوس المعصومة، وأكل الأموال بالباطل، والحاكم والمحكوم له وعليه بالباطل خصماء لشاهد الزور عند أحكم الحاكمين يوم القيامة.
6- يحصل بشهادة الزور تزكية المشهود له وهو ليس أهلاً لذلك، ويحصل بها جرح المشهود عليه بالباطل، والتزكية شهادة للمزكى، فإذا كان حال المزكى وواقعه بخلاف مضمون التزكية؛ فإن المزكي شاهد بالزور حيث شهد بخلاف الحق، أو بما لا يعلم حقيقته.
فكذلك شاهد الزور و0هو مُزَكٍّ للظالم، ومُـجَرِّحٌ للمظلوم.
7- يترتب على شهادة الزور القول في دين الله بغير حق وبغير علم؛فإن ذلك من أعظم الفتن،ومن أخطر أسباب الصدّ عن سبيل الله،ومن أفحش عوامل الضلال للناس،وهو من الجرأة على الله،ومن أوضح الأدلة على جهل قائله خاصة إذا تبيّن له الحق فلم يرجع إليه،أو على نفاقه وإلحاده،قال الله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِـمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّـتَفْتَرُواْ عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ( ).فما أكثر شهادة الزور اليوم،ومثلهم الذين يحرّمون ما أحل الله لهم من طعام أو غيره. وأخطر من ذلك قوم يكتمون الحق مع علمهم به،ويظهرون الباطل ويدعون إليه الناس ويُزَيِّنُونَهُ لهم نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة( ).

ليست هناك تعليقات: