الأحد، 2 أكتوبر 2011

في كشف حال بني عبيد


  في كشف حال بني عبيد


سمعت الشيخ يحكي غير مرة في مجالسه يقول : زرت يوما المارستان المنصوري ، فجاء إلي أناس فقالوا لي : تصدق وزر المارستان العتيق فرحت معهم أزوره ، فقالوا لي : ألا تزور قبور الخلفاء ؟ ـ يعنون بني عبيد ـ فرحت معهم إلى قبورهم ، فوجدت قبورهم إلى القطب الشمالي : فتكلم عليهم وعلى مذاهبهم فقال الحاضرون : نحن نعتقد أن هؤلاء قوم صالحون ، لأنّا إذا مغلت عندنا الخيل (1) نجيء بها إلى قبور هؤلاء فتبرأ ، فلولا أنهم صالحون ما برأت الدواب من المغل عند قبورهم ، فقلت : وهو حجة أيضا على صحة ما أقوله فيهم ، فإن المغل من برد يحصل للدواب ، فإذا جيء بها إلى قبور اليهود والنصارى في الشام ، وإلى قبور المنافقين كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية ، فإن الدواب إذا سمعت أصوات المعذبين في قبورهم تفزع فيحصل لها حرارة تذهب بالمغل الذي حصل لها . وكان النبي r يوما راكبا على بغلته فحادت حتى كادت تلقيه عن ظهرها ، فقالوا : ما شأنها يا رسول الله ؟ فقال : ( إنها سمعت أصوات يهود تعذب في قبورها ) وقال الشيخ : إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم ، فما يروح أصحاب الدواب بها إلى قبر الشافعي ولا إلى قبر أشهب(2) فإن عند قبورهم تنزل الرحمة . وتكلم شيئا كثيرا من هذا الجنس ما ينحصر ، وهذا شيء منه .



(1) المغل : مغص يأخذ الدواب .
(2) هو أبو عمر أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي ، ولد سنة 145 وتوفي سنة 204 رحمه الله ، كان فقيه الديار المصرية في القرن الثاني للهجرة ، وكان صاحب الإمام مالك رحمه الله ، قال الإمام الشافعي : ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه . قيل : اسمه مسكين ، وأشهب لقب له ، مات بمصر .

آخر أيام ابن تيمية


فصل


ولماكان الشيخ في ديار مصر(1) كان ينهى عن إتيان المشاهد وتعظيمها ، وأعظم المشاهد بالقاهرة مشهد الحسين (2) فإن أمره عظيم ، فإن جميع ما ذكر من البدع والضلال يقام عنده وأضعاف ذلك ، حتى إذا غلظ أحد اليمين يحلفه عند مشهد الحسين ، فكان الشيخ ينهاهم عن ذلك وينكره بجنابه وحاله ، وقال : إن السلف ومن اتبعهم كانوا إذا حلّفوا أحدا وغلّظوا عليه اليمين يحلّفونه بين المحراب والمنبر ، ولم يحلِّفوه عند قبور أو أثر ، قال : وأما الحسين رضي الله عنه وعن سلفه ولعن قاتله فما حمل رأسه إلى القاهرة ، فإن القاهرة بناها الملك المعز في أوائل المائة الرابعة ، والحسين عليه السلام قتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ، ودفنت جثة الحسين حيث قتل . وقد روى البخاري في تاريخه أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن بها في البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها . وبعض العلماء يقول إنه حمل إلى دمشق ودفن بها(1) . فبين مقتل الحسين وبين بناية القاهرة نحـو مائتين وخمسين سنة . فإنه من المتواتر أن القاهرة بنيت بعد بغداد ، وبعد البصرة والكوفة وواسط ، فأين هذا من هذا ؟ .

          وقد ذكر صاحب الكتاب الذي سماه ( العلم المشهور في فضل الأيام والشهور ) وصنف هذا الكتاب للملك الكامل رحمه الله ، ذكر فيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد الملاحدة الزنادقة ملوك مصر في أواخر سنة خمسين وخمسمائة ، وقرض الله دولة بني عبيد بعد بنائهم لهذا المشهد بنحو أربع عشرة سنة ، وهذا مشهد الكذب والمين ، ما هو مشهد الحسين .

وكلام العلماء في ذم بني عبيد القداح مشهور ، وفي ذم مذاهبهم وما كانوا عليه ، قال الشيخ أبو حامد الغزالي : ظاهرهم الرفض ، وباطنهم الكفر المحض .

وكان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق رحمه الله في زمن بني عبيد في ديار مصر ، وكان يفتي أنه لا تحل ذبائح بني عبيد ، ولا نكاحهم ، ولا يصلى خلفهم . وكان يغلظ في أمرهم .

وبلغ نور الدين بن زنكي حالهم وما هم عليه ، فسأل العلماء في قتالهم وأخذ البلاد منهم ، فأفتاه العلماء بذلك ، وكتبت بذلك محاضر ، وأثبتت على الحكام ، فسير صلاح الدين ومن معه جيش عظيم ، فغزاهم وفتح البلاد منهم .

وبعض الجهال يظن أن بني عبيد كانوا شرفاء من ذريـة فاطمة (1) وأنهم كانوا صالحين ، وإنما كانوا زنادقة ملاحدة قرامطة باطنية وإسماعيلية ونصيرية ، ومن عندهم طلع الرفض إلى الشام وإلاّ قبل ذلك ما كان يعرف الرفض في الشام وبقاياهم في ديار مصر إلى اليوم (2) .

وكانت قصورهم بين القصرين , وكانوا ينادون ( كل من لعن وسب ، فله دينار وأردب ) . فبينما انسان منهم يلعن عائشة وانسان مغربي أنكر عليه ، فتحاملوا إلى عند الحاكم ، فقال له الحاكم : لم أنكرت عليه ؟! ، قال المغربي : إن امرأة جدي اسمها عائشة ، وقد ربتني وأحسنت إلي ، فلما سمعته يلعنها مـا هان علي . فقال له الحاكم : ذا ما يلعن امرأة جدك أنت ، ذا يلعن امرأة جدي أنا . فقال له المغربي : منك إليه ! .

       ورأيت رجلا من أهل القاهرة جاء إلى الشيخ بالقاهرة بعد مجيئه من اسكندرية (1) فقال له : إن أبي حدثني عن أبيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد ، وأن رأس الحسين ما جاء إلى ديار مصر ، لكن جرت واقعة ، أني وأنا صغير كنت أجري فوق سطح هذا المشهد ، وما له عندي حرمة بما حدثني أبي عنه ، فبينما أنا نائم ليلة وأنا أرى عجوزا زرقاء العينين شمطاء الرأس ومعها قيد ، فحطته في رجلي وقالت : تتوب ولا تعود تجري فوق سطح المشهد ؟ فقلت : التوبة ، التوبة ما بقيت أعود ، فقعدت وأنا مرعوب . فقال الشيخ : وهذا أيضا حجة لي على صحة ما أقوله ، فإن هذه شيطانة هذا الموضع ، وهي التي تزينه للناس . وكذلك لما بعث النبي r خالد بن الوليد رضي الله عنه بقطع العُزّى فقال له : ( لماّ قطعت العُزّى أي شيء رأيت خرج ؟ ) فقال : خرجت منها عجوز شمطاء هاربة نحو اليمن ، فقال النبي r : ( تلك شيطانة العُزّى ) . وسمعت الشيخ غير مرة يحكيها للناس .




(1) نقل الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي في ص 196ـ 198 وص 248ـ 253 من كتابه العقود الدرية عن الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ( 673ـ 748 ) وغيره أن مسير شيخ الإسلام من دمشق إلى مصر في رمضان سنة 705 بسعاية أعدائه لدى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، فكتب إلى نائب دمشق الأفرم بأن يرسله هو والقاضي نجم الدين ابن صصري على البريد ، فوصلا القاهرة يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان وفي اليوم التالي عقد له بعد صلاة الجمعة مجلس برئاسة قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف كان فيه هو المدعي وهو الحاكم ، وأقام الشيخ مرسما عليه ، وحبس في برج أياما ، ثم نقل ليلة عيد الفطر إلى الحبس المعروف بالجب بقلعة الجبل هو وأخواه شرف الدين عبدالله وزين الدين عبدالرحمن ، وسجن وبقي سنة ونصف . وفي شهر ربيع الأول سنة 707 دخل الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى مصر ، وحضر بنفسه إلى الجب ، وأخرج الشيخ بعد أن استأذن في ذلك فخرج يوم الجمعة 23 ربيع الأول إلى نائب السلطنة بالقلعة . وعقدت له مجالس مناظرة كان القضاة يتهربون منها بحجة المرض وغيره . وأقام الشيخ بدار ابن شقير بالقاهرة ، ووصلت الأخبار إلى دمشق بإطلاقه فكان السرور عاما وشاملا ، وأقام بمصر يقرئ العلم ويجتمع عنده خلق . وتكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود ، فأخرج على البريد مساء الأربعاء 12 شوال سنة 707 إلى بلاد الشام ، ثم ردوه في يوم الخميس وهو على مرحلة من مصر ، وسجنوه أولا بسجن الحاكم بحارة الديلم ليلة الجمعة 19 شوال . ووجد المحابيس مشتغلين باللهو ويضيعون الصلاة ، فمازال يرغبهم في الخير حتى صار الحبس بما فيه خيرا من الزوايا والمدارس ، وكثر المترددون على الحبس ، والظاهر أنه نقل من هنا إلى حبس القضاة ولعله هو الذي يسمى ( قاعة الترسيم ) فلبث فيه سنة ونصف سنة . وكان أصحابه يدخلون إليه في السر ، ثم تظاهروا ، فأخرجته الدولة على البريد إلى الإسكندرية ، وحبس ببرج منها ، وأشيع بأنه قتل ، وأنه غرق غير مرة ، فلما عاد السلطان الناصر من الكرك وشرد أضداده بادر باستحضار الشيخ إلى القاهرة مكرما ، واجتمع به وحادثه وساره بحضرة القضاة والكبار وزاد في إكرامه ، ونزل وسكن في دار واجتمع بعد ذلك بالسلطان ، فلما قدم السلطان إلى الديار الشامية لكشف العدو عن الرحبة عاد الشيخ إلى دمشق سنة 712 .
 (2)لم يكن مشهد السيدة زينب معروفا مقصودا يومئذ ، وإنمـا أحـدث لـه هـذا البناء عبدالرحمن كتخدا سنة 1173 هـ .
(1) في مسجد بني أمية في الجدار الشرقي منه بأقصى الشمال قبل ملتقى الجدار الشرقي بالجدار الشمالي باب يفضي منه إلى مشهد كبير اسمه مشهد الحسين في داخله قبر يقال أنه دفن به رأس الحسين عليه السلام .
(1) قال القاضي ابن خلكان في ترجمة المهدي العبيدي من كتابه وفيات الأعيان : إن أهل العلم بالأنساب ينكرون دعواه في النسب وزوج أم المهدي هو الحسين بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن ميمون القداح ، قال : وسمي قداحا لأنه كان كحالا يقدح العين إذا نزل فيها الماء .
            وفي ( مختصر الفرق بين الفرق ) ص 170ـ 171 أن نفرا عرفوا بآل حمدان مختار اجتمعوا مع الملقب بديدان ـ وهو محمد بن الحسين ـ وميمون بن ديصان ( أي القداح ) في سجن والي العراق وأسسوا في ذلك السجن مذهب الباطنية ، ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن ، وابتدأ ديدان بالدعوة من جهة الجبل فدخل في دينه جماعة من أكراد الجبل ، ثم رحل ميمون إلى ناحية المغرب وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب ، فلما دخل دعوته قوم من غلاة الرافضة والحلولية إدعى أنه من ولد محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق ، فقبل الأغبياء منه ، مع علم أصحاب الأنساب بأن محمد بن اسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب . ثم ظهر سعيد بن أحمد بن عبيدالله بن ميمون القداح فقال لأتباعه : أنا عبيدالله بن الحسين بن ميمون بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق ، ثم ظهرت فتنته بالمغرب . قال المصنف : وأولاده اليوم ( أي في عصر مؤلف الفرق بين الفرق ) مستولون على أعمال مصر .
(2)  أي أوائل القرن الثامن الهجري ، زمن كتابة هذه الرسالة .
 (1) كان مجيئه من الإسكندرية إلى القاهرة في شوال 709 .

آخر أيام ابن تيمية


فصل


          وكان مع أناس حجارين حجر رخام وقد قمّعوه بقصدير ، وفي وسط الحجر أثر قدم ، دائرين في البلاد ، ويدخلون به على بيوت الكبراء والسعداء في الأسواق ويقولون لهـم : هذا موضع قدم نبيكم ، فيبقى الناس يقبلونه ويتبركون به ويعطونهم الأموال لأجل ذلك ، فأمسكهم الشيخ ، فكسر ذلك الحجر ، وتهارب أصحابه من قدام الشيخ مخافة أن يضرهم .


فصل


          وجاء إنسان إلى الشيخ يوما بخبز يابس فقال له : يا سيدي قد جبت هذا من سماط الخليل على اسمك  . فقال له : ما لي به حاجة ، أنا حاجتي إلى الدين الذي كان عليه الخليل ، ومتابعة ملة الخليل الذي أمر الله بها أمة محمد بمتابعتها ، ما لي حاجة بهذا الخبز ، والخليل ما عمل هذا ، ولا أمر بهذا القدس ، ولا كان يطعم ويضيف إلا اللحم , قال الله تعال : ( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ) . وأما القدس فإنه شهوة اليهود ، وقد سئل عبد الله بن المبارك رضي الله عنه فقيل له : جاء حديث أن القدس قدّسه سبعون نبيا ، فقال : لا ، ولا نصف نبي .

 

 

فصل3


فصل3


وكان تحت الطاحون التي قبلي مسجد النارنج في الماء عند فرّاش الطاحون صنم حجر يعظّم ويستسقى به ، فكان بعض الناس يكون عنده مولود صغير وقد طال به المرض ، فيأتون به حتى يغطّسوه عند الصنم في الماء فيشفى ، ويحطّون عند الصنم خبزا وحلوى وغير ذلك . فخرج إليه الشيخ شرف الدين وأخوه تقي الدين فكسره وخلص أولاد الناس منه .

وكان عمود في حارة الفرما يقال له العمود المخلّق وكان حاله كما ذكر , فكسره وأراح الناس منه .


فصل2


فصل


          وكانت صخرة كبيرة عظيمة في وسط محراب مسجد النارنج فيتوجه المصلي إليها ضرورة ، وعليها ستر أسود مرخي ودرابزين حولها ، وقد استفاض بين الناس أنه حط عليها رأس الحسين عليه السلام فانشقت له ، وأنها متى انشقت كلها قامت القيامة ، ولها في كل سنة ـ يوم عاشوراء ـ عيد يجتمع فيه الناس ، ويبقون في ذلك اليوم وفي غيره من الأيام يتبركون بها ويقبلونها ، وينذرون لهـا النذور ، ويلطخونها بالخلوق ، ويدعون عندها ، فبلغ ذلك الشيخ ، فطلب الحجارين من القلعة ، وخرج إليها ومعه شرف الدين في جماعة كبيرة ، فأول شيء عمله هو قلع الدرابزين من حولها ، ونتش الستر عنها ورماه ، وصاح على الحجارين : دِه عليه ، فتأخروا عنها ، فتقدم هو وأخوه شرف الدين وضربها بنعله وقال : إن أصاب أحد منكم شيء أصابنا نحن قبله . فتقدم إليه عند ذلك الحجارون ، وحفروا عليها ، فإذا هي رأس عمود كبير قد حفر له ونزل في ذلك المكان ، فكسروه ، وحملوه على أربع عشرة بهيمة وأحرقوه كلسا .

قال الشيخ : بعض الرافضة عمل هذا في هذا المكان ، ولوح بين الناس أن رأس الحسين حطوه على هذا الحجر ، حتى يضل به جهال الناس . قال : والرافضة من عادتهم أنهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد ويعظمونها بخلاف المساجد ، وقد قال الله سبحانه : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله اليوم الآخر } ولم يقل : ( مشاهد الله ) . وقال { وأن المساجد لله } ما قال : ( وأن المشاهد لله ) . وقال النبي r : ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) ما قال : من بنى لله مشهدا بنى الله له بيتا في الجنة .

وتكلم وهو جالس في هذا المكان وقال من هذا الجنس شيئا كثيرا . وقال : زيارة القبور زيارة شرعية مأمور بها ، والزيارة البدعية منهي عنها ، فالزيارة الشرعية هي التي أمر بها النبي r ، فإنه زار قبر أمه فقال : ( استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، فإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ) . فالكافر يزار قبره ليتذكر الآخرة ، ولا يدعى له ولا يستغفر له ، بخلاف المؤمن فإنه يزار قبره ليتذكر به الآخرة ، ويدعى له ، ويستغفر له ويترحم عليه ، ويسأل الله له من كل خير ، فإن زيارة قبره من جنس الصلاة عليه .

وكان النبي r يعلم أصحابه وكان النبي r يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، ويرحم الله منا ومنكم المستقدمين والمستأخرين ، ونسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم ، واغفر لنا ولهم ) . فهذا كله حق للمؤمن ، وقد قال r : ( أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم عليّ معروضة عليّ . قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : تقولون أني بليت ؟ قالوا : نعم . قال : ( إن الله حـرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ) . وقد روى ابن عبد البر حديثا وصححه أن النبي r قال : ( ما من رجل مؤمن يمر بقبر رجل مؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) .

وأما الزيارة البدعية ، فهي أن تزار القبور للتبرك بها ، أو الدعاء عندها ، أو الاستغاثة بأهلها ، أو النذر لها مثل زيت أو كسوة أو شمع أو دراهم أو يشعلون عندها السُرُج أو يصلون عندها ، فإن النبي r نهى عن جميع ذلك فقال : ( لعن الله زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسُرُج ) وقال : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) وقال : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما فعلوا ، قالت عائشة رضي الله عنها : ولولا ذلك لأُبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا . فهذه الزيارة على هذا الوجه بدعية منهيٌ عنها .


فصل1


فصل1

         
قد بلغ الشيخ أن في المسجد الذي خلف قبة اللحم في العلافين ويعرف بإسم مسجد الكف بلاطة سوداء ، وقد شاع بين الناس أن إنسانا من قديم الزمان رأى في منامه النبي r وحدثه بأمور فقال : يا رسول الله ، إن حدثت الناس بالذي حدثتني لا يصدقونني . فقال له : هذا كفّي اليمين في هذه البلاطة دليلا على صدقك ، وحط كفه فيها فغاص ، فبقي فيها موضع كف وخمس أصابع ، وانعكف الناس عليه كما ذكر بالنذر له والاستسقاء ، فبلغ ذلك الشيخ ، فطلع إليها ومعه جماعته وأخوه الشيخ شرف الدين فسمعته غير مرة يحدث يقول : لما نظرت إليها قلت : هذا الكف منحوت ، مصنوع ، مكذوب فإن النحّات جاء يعمله كف يمين فعمله كف شمال ، فبقي معكوسا يجيء الخنصر مكان الإبهام ، والإبهام موضع الخنصر ، فكسرها وما بقي لها ذكر ولا أثر ولله الحمد .

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، وقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون .

وصلى الله على عبده ورسوله ، خير الخلق وأكرمهم على الله المصطفى المأمون ، صلاة دائمة ما دامت الأيام والدهور والسنون ، أما بعد :

فهذا فصل فيما قام به الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وتفرد به دون غيره من العلماء رضي الله عنهم ، الذين كانوا قبله وفي زمانه ، وذلك بتكسير الأحجار التي كان الناس يزورونها ، ويتبركون بها ، ويقبّلونها ، وينذرون لها النذور ، ويلطخونها بالخلوق ، ويطلبون عندها قضاء حاجاتهم ، ويعتقدون أن فيها أو لها سرا ، وأن من تعرض لها بسوء بقال أو فعال أصابته في نفسه آفة من الآفات .

فشرع الشيخ يعيب تلك الأحجار ، وينهى الناس عن إتيانها ، أو أن يفعل عندها شيء مما ذكر ، أو أن يحسن بها الظن .

فقال له بعض الناس : إنه قد جاء حديث أن أم سلمة رضي الله عنها سمعت النبي r يقرأ بالتين والزيتون ، فأخذت تينة وزيتونة وربطت عليهما وعلقتهما حرزا ، وبقيت كلما جاء إليها أحد به مرض تحطه عليه فيبرأ من ذلك المرض . فبلغ ذلك رسول الله r فسألها عن ذلك ، فقالت : سمعتك تقرأ بالتين والزيتون ، فقلت : ما قرأ رسول الله بذلك إلا وفيه سرا أو منفعة ، فعملت تينة وزيتونة لي حرزا ، وأحسنت ظني به ، ونفعت بذلك الناس . فقال لها النبي r : ( لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به ) .

فقال الشيخ : هذا الحديث كله من أوله إلى آخره كذب مختلق ، وإفك مفترى على رسول الله r وعلى أم سلمة رضي الله عنها ، والذي صح وثبت عن النبي r فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني .. ) الحديث . و : ( أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي عبدي خيرا ) . وقال : ( لا يموتن أحدكم إلا ويحسن ظنه بالله الذي تفرد بخلقه ، وأوجده من العدم ولم يكن شيئا ، وبيده ضره ونفعه ) ، كما قال إمامنا وقدوتنا إبراهيم خليل الرحمن : { الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين . والذي يميتني ثم يحين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } فهذا الرب العظيم الكبير المتعال ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، يحسن العبد به ظنه ، ما يحسن ظنه بالأحجار ، فإن الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فأدخلتهم النار ، وقد قال الله تعالى في الأحجار وفيمن أحسنوا بها الظن حتى عبدوها من دونه : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } وقال : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } وقد أمر النبي r أن يستجمر من البول بثلاثة أحجار ، ما قال أحسنوا ظنكم بها ، بل قال : استجمروا بها من البول ، وقد كسر النبي r الأحجار التي أُحسن بها الظن حتى عبدت حول البيت وحرّقها بالنار .
فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل الباب الصغير الذي عند درب النافدانيين فشد عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره ، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبد الله بن تيمية قال : فخرجنا لكسره ، فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسرالعمود المخلق ، فاجتمع معنا خلق كثير . قال : فلما خرجنا نحوه ، وشاع في البلدان ( ابن تيمية طالع ليكسر العمود المخلق ) صاح الشيطان في البلد ، وضجت الناس بأقوال مختلفة ، هذا يقول ( ما بقيت عين الفيجة تطلع ) ، وهذا يقول ( ماينزل المطر ، ولا يثمر شجر ) وهذا يقول : ( ما بقي ابن تيمية يفلح بعد أن تعرض لهذا ) ، وكل من يقول شيئا غير هذا .

قال الشيخ شرف الدين : فما وصلنا إلى عنده إلا وقد رجع عنا غالب الناس ، خشية أن ينالهم منه في أنفسهم آفة من الآفات ، أو ينقطع بسبب كسره بعض الخيرات .

قال : فتقدمنا إليه ، وصحنا على الحجّارين : دونكم هذا الصنم ، فما جسر أحد منهم يتقدم إليه . قال : فأخذت أنا والشيخ المعاول منهم ، وضربنا فيه ، وقلنا : { جاء الحق وزهق الباطـل إن الباطـل كان زهوقا } وقلنا : إن أصاب أحد منه شيء نكون نحن فداه ، وتابعنا الناس فيه بالضرب حتى كسرناه ، فوجدنا خلفه صنمين حجارة مجسدة مصوّرة ، طول كل صنم نحو شبر ونصف .

وقال الشيخ شرف الدين : قال الشيخ النووي ( اللهم أقم لدينك رجلا يكسر العمود المخلق ، ويخرب القبر الذي في جيرون ) فهذا من كرامات الشيخ محيي الدين ( أي النووي ) . فكسرناه ولله الحمد ، وما أصاب الناس من ذلك إلا الخير والحمد لله وحده .