الأحد، 2 أكتوبر 2011

آخر أيام ابن تيمية


فصل


ولماكان الشيخ في ديار مصر(1) كان ينهى عن إتيان المشاهد وتعظيمها ، وأعظم المشاهد بالقاهرة مشهد الحسين (2) فإن أمره عظيم ، فإن جميع ما ذكر من البدع والضلال يقام عنده وأضعاف ذلك ، حتى إذا غلظ أحد اليمين يحلفه عند مشهد الحسين ، فكان الشيخ ينهاهم عن ذلك وينكره بجنابه وحاله ، وقال : إن السلف ومن اتبعهم كانوا إذا حلّفوا أحدا وغلّظوا عليه اليمين يحلّفونه بين المحراب والمنبر ، ولم يحلِّفوه عند قبور أو أثر ، قال : وأما الحسين رضي الله عنه وعن سلفه ولعن قاتله فما حمل رأسه إلى القاهرة ، فإن القاهرة بناها الملك المعز في أوائل المائة الرابعة ، والحسين عليه السلام قتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ، ودفنت جثة الحسين حيث قتل . وقد روى البخاري في تاريخه أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن بها في البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها . وبعض العلماء يقول إنه حمل إلى دمشق ودفن بها(1) . فبين مقتل الحسين وبين بناية القاهرة نحـو مائتين وخمسين سنة . فإنه من المتواتر أن القاهرة بنيت بعد بغداد ، وبعد البصرة والكوفة وواسط ، فأين هذا من هذا ؟ .

          وقد ذكر صاحب الكتاب الذي سماه ( العلم المشهور في فضل الأيام والشهور ) وصنف هذا الكتاب للملك الكامل رحمه الله ، ذكر فيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد الملاحدة الزنادقة ملوك مصر في أواخر سنة خمسين وخمسمائة ، وقرض الله دولة بني عبيد بعد بنائهم لهذا المشهد بنحو أربع عشرة سنة ، وهذا مشهد الكذب والمين ، ما هو مشهد الحسين .

وكلام العلماء في ذم بني عبيد القداح مشهور ، وفي ذم مذاهبهم وما كانوا عليه ، قال الشيخ أبو حامد الغزالي : ظاهرهم الرفض ، وباطنهم الكفر المحض .

وكان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق رحمه الله في زمن بني عبيد في ديار مصر ، وكان يفتي أنه لا تحل ذبائح بني عبيد ، ولا نكاحهم ، ولا يصلى خلفهم . وكان يغلظ في أمرهم .

وبلغ نور الدين بن زنكي حالهم وما هم عليه ، فسأل العلماء في قتالهم وأخذ البلاد منهم ، فأفتاه العلماء بذلك ، وكتبت بذلك محاضر ، وأثبتت على الحكام ، فسير صلاح الدين ومن معه جيش عظيم ، فغزاهم وفتح البلاد منهم .

وبعض الجهال يظن أن بني عبيد كانوا شرفاء من ذريـة فاطمة (1) وأنهم كانوا صالحين ، وإنما كانوا زنادقة ملاحدة قرامطة باطنية وإسماعيلية ونصيرية ، ومن عندهم طلع الرفض إلى الشام وإلاّ قبل ذلك ما كان يعرف الرفض في الشام وبقاياهم في ديار مصر إلى اليوم (2) .

وكانت قصورهم بين القصرين , وكانوا ينادون ( كل من لعن وسب ، فله دينار وأردب ) . فبينما انسان منهم يلعن عائشة وانسان مغربي أنكر عليه ، فتحاملوا إلى عند الحاكم ، فقال له الحاكم : لم أنكرت عليه ؟! ، قال المغربي : إن امرأة جدي اسمها عائشة ، وقد ربتني وأحسنت إلي ، فلما سمعته يلعنها مـا هان علي . فقال له الحاكم : ذا ما يلعن امرأة جدك أنت ، ذا يلعن امرأة جدي أنا . فقال له المغربي : منك إليه ! .

       ورأيت رجلا من أهل القاهرة جاء إلى الشيخ بالقاهرة بعد مجيئه من اسكندرية (1) فقال له : إن أبي حدثني عن أبيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد ، وأن رأس الحسين ما جاء إلى ديار مصر ، لكن جرت واقعة ، أني وأنا صغير كنت أجري فوق سطح هذا المشهد ، وما له عندي حرمة بما حدثني أبي عنه ، فبينما أنا نائم ليلة وأنا أرى عجوزا زرقاء العينين شمطاء الرأس ومعها قيد ، فحطته في رجلي وقالت : تتوب ولا تعود تجري فوق سطح المشهد ؟ فقلت : التوبة ، التوبة ما بقيت أعود ، فقعدت وأنا مرعوب . فقال الشيخ : وهذا أيضا حجة لي على صحة ما أقوله ، فإن هذه شيطانة هذا الموضع ، وهي التي تزينه للناس . وكذلك لما بعث النبي r خالد بن الوليد رضي الله عنه بقطع العُزّى فقال له : ( لماّ قطعت العُزّى أي شيء رأيت خرج ؟ ) فقال : خرجت منها عجوز شمطاء هاربة نحو اليمن ، فقال النبي r : ( تلك شيطانة العُزّى ) . وسمعت الشيخ غير مرة يحكيها للناس .




(1) نقل الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي في ص 196ـ 198 وص 248ـ 253 من كتابه العقود الدرية عن الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ( 673ـ 748 ) وغيره أن مسير شيخ الإسلام من دمشق إلى مصر في رمضان سنة 705 بسعاية أعدائه لدى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، فكتب إلى نائب دمشق الأفرم بأن يرسله هو والقاضي نجم الدين ابن صصري على البريد ، فوصلا القاهرة يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان وفي اليوم التالي عقد له بعد صلاة الجمعة مجلس برئاسة قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف كان فيه هو المدعي وهو الحاكم ، وأقام الشيخ مرسما عليه ، وحبس في برج أياما ، ثم نقل ليلة عيد الفطر إلى الحبس المعروف بالجب بقلعة الجبل هو وأخواه شرف الدين عبدالله وزين الدين عبدالرحمن ، وسجن وبقي سنة ونصف . وفي شهر ربيع الأول سنة 707 دخل الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى مصر ، وحضر بنفسه إلى الجب ، وأخرج الشيخ بعد أن استأذن في ذلك فخرج يوم الجمعة 23 ربيع الأول إلى نائب السلطنة بالقلعة . وعقدت له مجالس مناظرة كان القضاة يتهربون منها بحجة المرض وغيره . وأقام الشيخ بدار ابن شقير بالقاهرة ، ووصلت الأخبار إلى دمشق بإطلاقه فكان السرور عاما وشاملا ، وأقام بمصر يقرئ العلم ويجتمع عنده خلق . وتكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود ، فأخرج على البريد مساء الأربعاء 12 شوال سنة 707 إلى بلاد الشام ، ثم ردوه في يوم الخميس وهو على مرحلة من مصر ، وسجنوه أولا بسجن الحاكم بحارة الديلم ليلة الجمعة 19 شوال . ووجد المحابيس مشتغلين باللهو ويضيعون الصلاة ، فمازال يرغبهم في الخير حتى صار الحبس بما فيه خيرا من الزوايا والمدارس ، وكثر المترددون على الحبس ، والظاهر أنه نقل من هنا إلى حبس القضاة ولعله هو الذي يسمى ( قاعة الترسيم ) فلبث فيه سنة ونصف سنة . وكان أصحابه يدخلون إليه في السر ، ثم تظاهروا ، فأخرجته الدولة على البريد إلى الإسكندرية ، وحبس ببرج منها ، وأشيع بأنه قتل ، وأنه غرق غير مرة ، فلما عاد السلطان الناصر من الكرك وشرد أضداده بادر باستحضار الشيخ إلى القاهرة مكرما ، واجتمع به وحادثه وساره بحضرة القضاة والكبار وزاد في إكرامه ، ونزل وسكن في دار واجتمع بعد ذلك بالسلطان ، فلما قدم السلطان إلى الديار الشامية لكشف العدو عن الرحبة عاد الشيخ إلى دمشق سنة 712 .
 (2)لم يكن مشهد السيدة زينب معروفا مقصودا يومئذ ، وإنمـا أحـدث لـه هـذا البناء عبدالرحمن كتخدا سنة 1173 هـ .
(1) في مسجد بني أمية في الجدار الشرقي منه بأقصى الشمال قبل ملتقى الجدار الشرقي بالجدار الشمالي باب يفضي منه إلى مشهد كبير اسمه مشهد الحسين في داخله قبر يقال أنه دفن به رأس الحسين عليه السلام .
(1) قال القاضي ابن خلكان في ترجمة المهدي العبيدي من كتابه وفيات الأعيان : إن أهل العلم بالأنساب ينكرون دعواه في النسب وزوج أم المهدي هو الحسين بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن ميمون القداح ، قال : وسمي قداحا لأنه كان كحالا يقدح العين إذا نزل فيها الماء .
            وفي ( مختصر الفرق بين الفرق ) ص 170ـ 171 أن نفرا عرفوا بآل حمدان مختار اجتمعوا مع الملقب بديدان ـ وهو محمد بن الحسين ـ وميمون بن ديصان ( أي القداح ) في سجن والي العراق وأسسوا في ذلك السجن مذهب الباطنية ، ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن ، وابتدأ ديدان بالدعوة من جهة الجبل فدخل في دينه جماعة من أكراد الجبل ، ثم رحل ميمون إلى ناحية المغرب وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب ، فلما دخل دعوته قوم من غلاة الرافضة والحلولية إدعى أنه من ولد محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق ، فقبل الأغبياء منه ، مع علم أصحاب الأنساب بأن محمد بن اسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب . ثم ظهر سعيد بن أحمد بن عبيدالله بن ميمون القداح فقال لأتباعه : أنا عبيدالله بن الحسين بن ميمون بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق ، ثم ظهرت فتنته بالمغرب . قال المصنف : وأولاده اليوم ( أي في عصر مؤلف الفرق بين الفرق ) مستولون على أعمال مصر .
(2)  أي أوائل القرن الثامن الهجري ، زمن كتابة هذه الرسالة .
 (1) كان مجيئه من الإسكندرية إلى القاهرة في شوال 709 .

ليست هناك تعليقات: