الأحد، 2 أكتوبر 2011



الاهتمام بالبيئة المحيطة بالبشر قديم قدم الإنسان نفسه، فالإنسان لا ينفك عن الاحتياج إلى بيئته والتفاعل معها، والانشغال المتخصص بالبيئة والحفاظ على توازنها بالاستخلاف والعمارة وميزان المقاصد الشرعية من الشواغل المهمة في الفقه الإسلامي؛ ولهذا الغرض خٌصصت الأوقاف وفُصلت الأحكام الشرعية تقييدًا لسلطة الإنسان وحركته بإطار الخلافة لله وأمانة الإصلاح في الأرض وعمارتها، وهكذا دخلت علاقة الإنسان بالبيئة في مراتب الضروريات والحاجيات و التحسينيات في مقاصد الشرع من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والعرض، وفي هذا الباب كلام كثير مبثوث في أمهات الكتب بل والمؤلفات الأدبية.
    أما الاهتمام بالبيئة وقضاياها في الغرب عبر السياسات البيئية فحديث نسبيًا، وقد ظهر اصطلاح "علم البيئة" ecology  عام 1866 على يد عالم الحيوان الألماني إرنست هايكل. ويشتق اصطلاح "علم البيئة" ecology  من الكلمة اليونانية oikos والتي تعني الموطن، وقد استخدمه هايكل للإشارة إلى "البحث في مجموع علاقات الحيوان ببيئته العضوية وغير العضوية". ومنذ أوائل القرن العشرين عُرف "علم البيئة" بكونه فرعًا من فروع البيولوجي (الأحياء) يبحث في علاقة الكائنات الحية ببيئتها. ولكنه أخذ يتحول إلى اصطلاح "سياسي"، خصوصا من ستينيات القرن العشرين حيث استخدمته حركات "الخضر" المتصاعدة، وتثير تلك الأيديولوجيا الجديدة وأجندتها قدرًا كبيرًا من الجدل.   


البيئة والخضر وشبكة الحياة

منذ خمسينيات القرن العشرين استخدم اللون "الأخضر" ليشير إلى التعاطف مع الموضوعات والمشروعات البيئية، ومنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين تبنى هذا الاصطلاح عدد متزايد من الأحزاب البيئية كان أولها الألمان الخضر (Die Grünen)، وما لبث أن ظهر موازيًا اصطلاح "البيئية"Environmentalism  الذي استخدم  لوصف أفكار ونظريات تعتقد في جوهرها أن الحياة البشرية لا يمكن فهمها إلا من خلال سياق العالم الطبيعي، وهي بذلك تضم تنوعًا واسع النطاق من المعتقدات العلمية والدينية والاقتصادية والسياسية بدلا من أن تنطوي على مجموعة معينة من السياسات كتلك التي تدعمها حركة الخضر المعاصرة.
ويعود تراجع "البيئية" إلى أنه أحيانا يستخدم للإشارة إلى تناول معتدل أو إصلاحي للبيئة يستجيب إلى الأزمات البيئية، لكن دون بحث الافتراضات التقليدية عن العالم الطبيعي من أساسها. وتكمن فضيلة "المذهب البيئي" ecologism في تأكيده الأهمية المحورية لعلوم البيئة وتناوله لفهم سياسي يختلف اختلافًا نوعيًا عن التناول التقليدي.
وقد أدت دعوة "المذهب البيئي" التي نادت بتغيير سياسي اجتماعي راديكالي وإعادة تفكير جذري في علاقة الإنسان بالطبيعة إلى تطور أفكاره إلى إيديولوجيا قائمة بذاتها.
والأهمية السياسية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في الغرب تعد حديثة الجذور نسبيا، فحتى ستينيات القرن العشرين لم تكن الطبيعة بالنسبة إلى أغلب المفكرين السياسيين الغربيين إلا "مورداً اقتصاديا" على الإنسان أن يستخدمه بكفاءة. وقد تغيرت هذه النظرة بسبب الإدراك المتزايد بأن إساءة استغلال الطبيعة يهدد بقاء الجنس البشري. ومن أوائل الكتابات التي نبّهت إلى وجود أزمة بيئية متزايدة كان كتاب ريتشيل كارسون "الربيع الساكن" (1962)، الذي كان نقداً لما لحق بالحياة البرية وعالم الإنسان من أضرار من جراء الاستخدام المتزايد للمبيدات الحشرية والكيماويات الزراعية الأخرى، والمطالبة باستخدام رشيد للموارد الطبيعية خاصة تلك التي أوشكت على النفاد.
وعلى الرغم من أن السياسات الخضراء والسياسات البيئية الحديثة لم تظهر إلا في ستينيات القرن العشرين فإنه يمكن تتبع الأفكار البيئية إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد رأى الكثيرون أن مبادئ المذهب البيئي المعاصر يضرب بجذوره في الديانات الوثنية القديمة التي أكدت مفهوم "الأرض الأم" Mother Earth، وكذلك الديانات الشرقية مثل الهندوسية والبوذية والطاوية.
ومع ذلك يظل المذهب البيئي بالأساس رد فعل على الآثار السلبية للتقدم الصناعي خاصة مع القرن التاسع عشر؛ حيث ولّد امتداد الحياة الصناعية ونمو المدن حنينًا إلى الوجود الريفي النموذجي كما بدا في أعمال روائيين مثل توماس هاردي والمفكرين السياسيين مثل ويليام موريس البريطاني الاشتراكي المؤيد لمذهب الحرية في القرن التاسع عشر، وبيتر كروبوتكين من اللاسلطويين (الأناركيين)، وغالبا ما اشتدت ردود الأفعال المماثلة في أكثر الدول التي شهدت تقدما صناعيا سريعا، وهو ما أثمر تلوثًا بيئيًا وساهم في قيام حركة "العودة إلى الطبيعة" بين الشباب الأوروبي، واشتد الاهتمام بالبيئة بسبب تهديد النمو الاقتصادي لبقاء العنصر البشري والكوكب نفسه الذي يقله. وجاء التعبير عن هذه المخاوف في تقارير منظمات دولية مثل تقرير الأمم المتحدة غير الرسمي "أرض واحدة فقط" (1972) وتقرير "حدود النمو" لنادي روما (1972).
وفي الوقت نفسه نشأ جيل جديد من جماعات الضغط النشطة، مثل: السلام أخضر Green-peace، وأصدقاء الأرض Friends of the Earth التي تسلط الضوء على الموضوعات البيئية كأخطار الطاقة النووية والتلوث وتضاؤل احتياطيات الوقود، وهو ما أثمر تأسيس جماعات أكبر مثل الصندوق الدولي للبيئة - وظهور حركة بيئية شديدة القوة وذائعة الصيت.
ومع ثمانينيات القرن العشرين وصاعدًا احتلت المسائل البيئية الصدارة في الأجندة السياسية للأحزاب الخضراء الموجودة حاليا في معظم الدول الصناعية.
وقد لفتت السياسة البيئية الانتباه إلى موضوعات؛ كالتلوث وصيانة الأنهار والغابات والأمطار الحمضية، والأهم من ذلك قدّم علماء البيئة مجموعة راديكالية جديدة من المفاهيم والقيم لفهم وتفسير العالم، منها النظرة للحرب، والدفاع عن حقوق المرأة.
ويبتعد المذهب البيئي عن الاعتقادات السياسية التقليدية؛ حيث إنه يبدأ بتناول ما تجاهلته تلك الاعتقادات كالعلاقات التي تربط الإنسان بباقي الكائنات الحية والأكثر من ذلك ما يربط الإنسان بـ"شبكة الحياة"، ويصف الخضر الألمان ذلك في شعار "لا اليسار ولا اليمين بل إلى الأمام".  

الإنسان أم العودة إلى الطبيعة ؟

انتقد علماء البيئة الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه الفكر السياسي الغربي بشأن "مركزية البشرية" أو التمركز حول الإنسان، أي أن البشر هم مركز الوجود. وهو ما دمر وشوه العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية، وبدلا من المحافظة على كوكب الأرض واحترامه واحترام الفصائل المختلفة التي تعيش على سطحه سعى الإنسان -كما وصفه جون لوك- ليصبح "سيدا للطبيعة ومالكها"، وساعدت الفردية الليبرالية على انطلاق مشروع التراكم الرأسمالي التحديثي بمقاييسه الاقتصادية النقدية بعيدًا عن التكلفة الإنسانية والطبيعية، معطيًا الإنسان الضوء الأخضر للسيطرة على الطبيعة والزعم بالقدرة على معرفة كل أسرارها بالعلم بعد التحرر من الغيب والدين، فتم استنزاف الطبيعة لراحة الإنسان ومصلحته.
والتقسيم التقليدي بين اليمين واليسار في السياسة والصراع بين الجماعية و الفردانية أو اشتراكية مقابل رأسمالية، يخفي حقيقة مهمة هي أن الموقفين يرميان إلى الهدف نفسه الذي يتمثل في مزيد من الوفرة المادية عبر مزيد من الاستنزاف الفعال للعالم الطبيعي الذي هو أفق العقل الآن وهنا فحسب.
ولم يكن العالم الطبيعي وحده هو الذي تهدد من جراء ذلك، بل أوشك الجنس البشري كله على الدمار في ظل سياسات التصعيد النووي إبان الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويمثل علماء البيئة نمطا جديدا من السياسة تبدأ من تصور للطبيعة بأنها شبكة من علاقات هشة تربط بين الفصائل الحية بما فيها الجنس البشري وبين البيئة الطبيعية، ولم يعد الجنس البشري يحتل وضعا مركزيا بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة ومن ثم وجب على الأفراد التحلي بالتواضع والاعتدال والرقة والتخلي عن الحلم المضلل الذي يجعل من العلم و التكنولوجيا حلاً أسطورياً لجميع المشكلات.  

علم البيئة البحث عن نموذج جديد

تتمثل الموضوعات الرئيسية للمذهب البيئي في الآتي:
*  المذهب الكلي HOLISM
أول افتراض في النظرية البيئية أن الأنظمة البيئية ليست "مغلقة"، ولا تكفي نفسها بنفسها بصورة مطلقة، فكل نظام بيئي يتفاعل مع غيره من الأنظمة الأخرى، والعالم الطبيعي  يتكون من شبكة من الأنظمة البيئية أكبرها المنظومة البيئية العالمية التي شاعت تسميتها بـ"المجال البيئي"eco-sphere أو "المجال البيولوجي" bio-sphere.
وقد غيّر التطور العلمي لعلم البيئة المفهوم عن العالم الطبيعي، ووضع الإنسان من المفهوم الذي يجعل الإنسان "سيدا" على الطبيعة إلى تصور يرى عكس ذلك، فالبشرية في الحاضر تواجه احتمال وقوع كارثة بيئية يعود السبب فيها تحديدًا إلى أن الإنسان في ملاحقته العمياء والمندفعة للثروة المادية  أخل "بميزان الطبيعة"، وهدد الأنظمة البيئية التي لا يمكن للحياة البشرية أن تقوم إلا بها.
فاحتياطات المعادن وفق التقديرات لن تدوم أكثر مما يتراوح بين 40 و80 سنة. وخلال 50 عاما ستزول الغابات الاستوائية المطيرة التي من شأنها أن تنقي مناخ الأرض وتنظمه إذا ما استمر معدل التصحر الحالي، بالإضافة إلى ذلك فإن المصانع ومحطات الطاقة تلوث الأنهار والبحيرات والغابات التي تمد الإنسان بالغذاء والوقود والماء والموارد الحيوية الأخرى. وأخيرًا تمتلك التكنولوجيا الذرية القدرة على سحق الجنس البشري وتدمير الكوكب الذي يقله.
ولم تنظر الأيديولوجيات السياسية التقليدية بجدية أبدا إلى العلاقة بين الطبيعة والجنس البشري؛ فهي كلها تزعم أن البشر هم "أسياد" العالم الطبيعي، ومن ثَمَّ لم تزد الطبيعة عن كونها أحد الموارد الاقتصادية إلا قليلا، وبذلك كانت جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل. وقد أرجع فريتجوف كابرا في كتابه "نقطة التحول" (1982) جذور هذه الأفكار إلى علماء وفلاسفة القرن السابع عشر أمثال رينيه ديكارت وإسحق نيوتن الذين صوروا العالم كآلة يمكن تحليل جزئياتها وفهمها بالأساليب العلمية حديثة الاكتشاف، والتي تطلبت اختبار الافتراضات مقابل "الحقائق" من خلال تجارب كثيرة ودقيقة، معرضين في ذلك عن النظرة العضوية للعالم التي كان يقدمها الدين.
وقد حقق العلم تطورات بارزة في المعرفة الإنسانية، كما وضع أساس التنمية في الصناعة الحديثة و التكنولوجيا. وكان من عظم إنجازات العلم أن هيمن المذهب العلمي الوضعي scientism على البحث الفكري في العالم الحديث؛ حيث اعتبرت المعرفة الحسية هي سبيل المنهج العلمي المادي للوصول إلى الحقيقة، ونظر إليها باعتبارها الطريقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها، وهو ما وضع في نظر البيئيين الأساس الفلسفي للكارثة البيئية المعاصرة، فالعلم يتعامل مع الطبيعة على أنها آلة شأنها شأن أية آلة أخرى تكون معرضة للإهمال أو الإصلاح أو التعديل أو حتى الاستبدال.
  ورأى "كابرا" أن الإنسان إذا تعلم أنه جزء من العالم الطبيعي –لا سيده- سينهار ذلك التشبث "بعالم نيوتن الآلي"، ويحل محله نموذج جديد أكثر احترامًا لموازين الطبيعة.
وانجذب المفكرون البيئيون أثناء بحثهم عن ذلك النموذج الجديد إلى مجموعة متنوعة من أفكار ونظريات مستقاة من العلم الحديث والأساطير القديمة والتراث الديني، ومفهوم الكلية Holism هو الفكرة الموحدة بين هذه الأفكار، لتعبر عن أن العالم يفهم بكليته لا بأجزائه الفردية، و يقوم  "المذهب الكلي" holism على الاعتقاد بأن "الكل" أهم من "الأجزاء"، ويرى أن كل جزء لا يستقيم له معنى في ذاته إلا فيما يتعلق بالأجزاء الأخرى، وأخيرا فيما يتعلق بـ"الكل".
ففي مجال العلم الطبي –على سبيل المثال- كان المرض يفهم ويعالج على أنه خلل في عضو بعينه أو حتى في خلايا معينة في الجسم لا على أنه عدم توازن أصاب حياة المريض كلها. وبالتالي انصب الاهتمام على الأعراض العضوية، بينما تم تجاهل العوامل النفسية والاجتماعية والبيئية.
ويعالج التناول الكلي holistic للصحة "الإنسان ككل"؛ حيث ينظر إلى الإصابات والأمراض على أنها مجرد أعراض عضوية لما قد يكون تركيبا من العوامل العضوية والنفسية والاجتماعية والبيئية.
ويبين المذهب الكلي holism أن التقسيم التقليدي للمعرفة الإنسانية إلى أقسام منفصلة كالعلوم والفلسفة والتاريخ والسياسة... إلخ يفتت الظواهر ويفككها؛ فعلم الاقتصاد مثلا لم يعد مجرد دراسة إنتاج البضائع واستهلاكها؛ فالتناول الكلي holistic لعلم الاقتصاد يتطلب الاهتمام بالتكلفة البيئية للإنتاج وقيمته الأدبية والروحية وعواقبه السياسية.
وتؤكد هذه النظرة على أهمية إدراك العلاقات داخل النظام واندماج عناصرها المختلفة داخل الكيان الكلي. وكان لهذه النظرة إيحاءات راديكالية قوية؛ فالمعرفة الموضوعية على سبيل المثال تعد مستحيلة؛ لأن عملية الملاحظة نفسها تغير ما يتم ملاحظته، كما أن الفاعل والمفعول به واحد، فالباحث لا ينفصل عن تجربته وبيئته، وهكذا فإن النظر إلى العالم على أنه مجموعة من الأنظمة قد أحدث ثورة في علم الطبيعة وهو في طور تغيير العلوم الأخرى، ويمكن حتما أن يطبق بالطريقة نفسها على بحث المسائل الاجتماعية والسياسية والبيئية- باختصار يمكن "للفيزياء الجديدة" أن تقدم نموذجا قادرا على أن يحل محل النظرة الميكانيكية الصلبة.
وقد قدم الدين مصدرا خصبا للمفاهيم والنظريات الجديدة، وقد نبّه كابرا في كتابه "طاوية الفيزياء"(1975) إلى التوازي المهم بين أفكار الفيزياء الحديثة وأفكار صوفية الشرق، فقد رأى أن الديانات مثل الهندوسية والطاوية والبوذية -وعلى الأخص مذهب الزن- قد نادت بالوحدة أو توحد كل شيء وهي حقيقة لم يكتشفها العلم الغربي إلا في القرن العشرين.
وانجذب الكثيرون من حركة الخضر إلى الصوفية الشرقية حيث رأوا فيها فلسفة تعبر عن حكمة علم البيئة، كما رأوا فيها منهج حياة يحث على التعاطف مع بني البشر وغيرهم من الفصائل ومع العالم الطبيعي، ويرى كتاب آخرون أن مبادئ علم البيئة يتجسد في الديانات التوحيدية كالمسيحية واليهودية والإسلام التي تعتقد أن البشر والطبيعة من صنع إلهي. وقد وصف جوناثان بوريت المدير الأسبق لجماعة أصدقاء الأرض الكوكب الأرضي بأنه يمثل "أقوى تجسيد باد لنا لصنع الخالق"، ويرى أن المحافظة على هذا الكوكب وصيانته واجب ديني، وأن الإنسان لن يتوافق مع الطبيعة إلا إذا اعتبر نفسه عبدًا لله فوق الأرض.
ولكن لشيوع العلمانية تعود أكثر مفاهيم الخضر الغربيون انتشارًا إلى أفكار ما قبل المسيحية، فلم تميز الديانات البدائية في الأغلب بين البشر وغيرهم من أشكال الحياة، وقلما ميزت بين كائنات حية وغير حية؛ فجميع الأشياء الحجارة والأنهار والجبال وحتى الأرض نفسها التي صورت في الغالب بـ"الأرض الأم".
واهتم علماء البيئة بفكرة الأرض الأم في محاولة لإيجاد علاقة جديدة بين الإنسان والعالم الطبيعي، فقدّم جيمس لوفلوك الكيميائي الكندي  في المجال الجوي، شارك وكالة ناسا NASA في برنامج الفضاء الخاص بها؛ حيث أدلى بدلوه في كيفية البحث عن حياة فوق كوكب المريخ، وفي كتابه "جايا" نظرة جديدة للحياة على الأرض 1979 فكرة أن الكوكب نفسه حي وسماه "جايا"، وهو اسم إله الأرض "جايا" عند اليونان. وعرف جيمس لوفلوك "جايا بأنه المجال البيولوجي للأرض ومجالها الجوي ومحيطاتها وتربتها" وحذر لوفلوك من "أن تدمير مثل هذا القدر الكبير من المنظومة البيئية لجهلنا بطبيعة ما تقوم به من عمل يشبه تفكيك نظام التحكم في طائرة جوية  أثناء طيرانها".
* القدرة على الاستدامة SUSTAINABILITY
يرى علماء البيئة أن فرص الحياة البشرية غير المحدودة في النمو المادي والازدهار تمثل الافتراض المتأصل في المعتقدات السياسية التقليدية، والذي تنادي به جميع الأحزاب السياسية السائدة؛ ففي أجزاء عديدة من العالم يتمتع الناس بمستويات معيشة كانت تُعد مستحيلة منذ 50 أو 100 عام، فالعلم و التكنولوجيا دائما ما يحلان المشكلات القديمة كالفقر والمرض، كما يفتحان الباب أمام فرص جديدة من خلال التلفزيون والفيديو والكمبيوتر والإنسان الآلي (روبوت) و ركوب الجو بل ركوب الفضاء. ومع ذلك يرى منظور المركزية البيئية أن انتظار الازدهار والوفرة المادية غير المحدودة الذي سماه هيرمان دالي "هوس النمو" (1974) ليس مضللا فحسب بل هو مسبب أساسي للكارثة البيئية.
ويشيع بين المفكرين الخضر جمع الرأسمالية والشيوعية معا و تصويرهما كنماذج "للتقدم الصناعي"، ومن ثم تطلب الاقتصاد الأخضر تصورات معتدلة عن الطبيعة وإعادة التفكر في أهداف النشاط الاقتصادي، خصوصا فيما يتعلق بنظرة الإنسان إلى الأرض والموارد التي تحتوي عليها.
وقد وجهت حركة الخضر الانتباه إلى ما تعده "قنبلة الكثافة السكانية الموقوتة". ومثل هذا القلق ليس حديث العهد، فمنذ عام 1798 حذّر الاقتصادي ورجل الدين البريطاني "توماس مالثوس" (1766-1834) من أن الزيادة السكانية ستؤدي حتمًا إلى مجاعة شديدة عامة وفظيعة؛ لأن إنتاج الغذاء محدود. ولكن مالثوس أغفل قدرة أساليب الزراعة الحديثة على إطعام الكثافة السكانية دائمة الزيادة. ومع ذلك يرى الخضر المعاصرون أن أفكار مالثوس البيئية لم تكن غير صحيحة ولكنها سبقت عصرها؛ فالزيادة السكانية مشكلة في حد ذاتها، ولكنها أيضا تبرز خطورة المشاكل البيئية، فالحيز الذي يملؤه كل إنسان يزداد ضيقا، أي أن الناس يتكاثرون في العيش في مدن متسعة، لكنها تعاني من انفجار سكاني. أما الريف وهو الأقل تعرضا للضرر فينحصر في وقت الفراغ والترويح.
وتعد "أزمة الطاقة" من أكثر الموضوعات التي  تعكس قلق البيئيين، فقد تحقق التقدم الصناعي Industrialism والوفرة الضخمة على حساب الفحم والغاز و احتياطيات البترول التي استنزفت لتوفر الوقود لمحطات الطاقة والمصانع والسيارات والطائرات... إلخ. والوقود وقود حفري تكوّن بتحلل أو اندماج الكائنات التي ماتت في عصور ما قبل التاريخ. وهذا الوقود الحفري غير قابل للتجدد فما أن ينفد لا يمكن الاستبدال به. ورأى شوماخر الاقتصادي البريطاني الذي  ناصر في  كتابه "الصغير جميل: دراسة في الاقتصاد لو أن الناس مهمون" (1973) أن مبدأ الإنتاج البشري مهم في التحليل الاقتصادي، وقدّم فلسفة اقتصادية مستمدة من البوذية تركز على أهمية الأخلاق و"العيش السليم". وكان معارضا للعملاق الصناعي، وآمن بالإنتاج "المعتدل"، كما دأب على دعم التكنولوجيا "المتوسطة".
وفي كتابه "الصغير جميل" ذهب إلى أن الإنسان أخطأ في اعتبار الطاقة "دخلاً" يتكرر كل أسبوع أو كل شهر بدلا من اعتبارها "رأس مال طبيعي" يضطر الإنسان إلى استهلاكه لحاجته. وأدى هذا الخطأ إلى أن زاد استهلاك الطاقة عاليا، خصوصا في سماء الغرب الصناعي في الوقت الذي اقتربت موارد الوقود المحدودة فيه من النضوب حيث من المحتمل أن تنفد قبل نهاية القرن الجديد.
ولا يركز الاقتصاد البيئي على التهديدات والتحذيرات فحسب بل يهتم أيضا بالحلول. فالوقود الحفري مثلا يعد شكلا من أشكال الطاقة "غير النظيفة"؛ لذلك اجتهدوا في البحث عن مصادر "نظيفة" للطاقة، ورهن علماء البيئة بقاء الجنس البشري وازدهاره على إدراك الإنسان أنه مجرد أحد عناصر المجال البيولوجي المركب، وأن هذا المجال البيولوجي لن يتمكن من دعم الحياة البشرية إلا إذا كان متوازنا وسليما. وبالتالي يجب الحكم على السياسات والأفعال بمبدأ "القدرة على الاستدامة"، أي قدرة النظام أو المجال البيولوجي في هذه الحالة على المحافظة على سلامته وبقائه.
تضع "القدرة على الاستدامة" حدودا للطموح الإنساني وأحلام الإنسان المادية؛ لأنها تحتم ألا يسبب الإنتاج إلا أقل القليل من الضرر للمنظومة البيئية العالمية الهشة، فمن الجلي أن الاستخدام الحالي للوقود الحفري مثلا غير قادر على الاستدامة؛ فالفحم والبترول والغاز الطبيعي ستنفد.
  وبالتالي يجب أن تقوم السياسة القادرة على استدامة الطاقة على الحد من استخدام الوقود الحفري والبحث عن مصادر طاقة بديلة ومتجددة مثل الطاقة الشمسية والهوائية وطاقة الأمواج التي تعد قادرة على الاستدامة بحكم طبيعتها، ويمكن التعامل معها بوصفها "دخلا" لا "رأس مال طبيعي"؛ لهذا رأى الخضر أن "عصر الوقود الحفري" يجب أن يفسح الطريق أمام "العصر الشمسي"، كما حثوا الحكومات على بحث وتنمية مصادر الطاقة المتجددة.
واهتم أنصار البيئة بالقيم التي تدعم هذه الرؤية البديلة بدعم الإنسانية وتشجيع الناس على العمل الجماعي، والحديث عن مسئوليتنا أمام الأجيال القادمة، وقيمة "التكنولوجيا ذات الطابع الإنساني"، وهاجموا النزعة الاستهلاكيةconsumerism  ، ودعوا إلى "العودة إلى الطبيعة".
* الأخلاقيات البيئية ETHICS
تهتم السياسة البيئية بجميع أشكالها بتوجيه التفكير الأخلاقي في عدة اتجاهات مختلفة؛ وذلك لأن الأنظمة الأخلاقية الحداثية تكرس الفردية مركزية الإنسان بشكل واضح. فعلى سبيل المثال يرى المذهب النفعي "الخير" و"الشر" على أساس ما يمر به الإنسان من آلام ومتع. وللأفراد أن يتصرفوا بأي طريقة تجلب لهم أكبر قدر من السعادة وأقل قدر من التعاسة، وذلك بموجب أنهم نفعيون من الدرجة الأولى. 
وإذا كانت ثمة مكانة للعالم غير البشري من الفصائل الأخرى من مملكة الحيوان والأشجار والنباتات والتربة وغيرها فهي قيمة أداتية، أي مجرد وسيلة لتحقيق أهداف الإنسان ومواءمة اهتماماته. وينطبق ذلك على النظريات العمالية في القيمة والتي تبناها الاقتصاديون الكلاسيكيون وأبرزهم ريكاردو في القرن التاسع عشر، بل وكارل ماركس أيضًا، ومفادها أن العالم غير البشري تكون له قيمة فقط عند الحد الذي "يختلط" فيه بالإنتاج والعمل البشري، أو عندما يدعم التفاعل بين الأفراد والطبيعة وتطوير مهارات الإنسان وإدراكه من خلال العمل.
والموضوع الأخلاقي الذي يتشبث به علماء البيئة بشدة هو الالتزام الأدبي تجاه الأجيال القادمة، فإن طبيعة المسائل البيئية تحتم ألا تظهر نتائج السلوك المتبع تجاهها إلا بعد عشرات -بل مئات- السنين وتعارض مقولات، مثل: لِمَ الاهتمام بنضوب الوقود الحفري إذا كان أهل هذا الزمن لن يكونوا موجودين عندما ينفد؟ ولِمَ القلق بشأن تراكم المخلفات النووية إذا كانت الأجيال التي ستتعامل معها لم تولد بعد؟
ومن الواضح أن الاهتمام بالمصالح العامة، وكذلك المصالح البشرية جمعاء لا يمتد إلى المستقبل إلا قليلاً.
يسعى علماء البيئة  إلى مد مفهوم مصلحة الإنسان ليشمل الجنس البشري كله -الآن ومستقبلاً- وبالتالي لا يفرق بين الأجيال الحالية والأجيال في المستقبل ولا بين الأحياء ومن لم يولدوا بعد، وهو ما يجعل جيل الزمن الحاضر مجرد "حماة" للثروة التي كونتها الأجيال السابقة ووجبت المحافظة عليها من أجل الأجيال المستقبلية. ومن ناحية أخرى قد يرى الاشتراكيون البيئيون أن الاهتمام بالأجيال المستقبلية ما هو إلا صورة تعبر عن امتداد حب الإنسانية والتعاطف معها عبر الأزمنة تمامًا، كما يتعدى هذا الحب والتعاطف حدود القومية والعرق والنوع.
لكن نسبية هذه المنظومة القيمية وردها للطبيعة فقط كان من تجلياتها مساواة الإنسان بالحيوان ونزع خلافة الإنسان وتميزه على سائر الكائنات، وكانت النتيجة تتضمن أن يتم  تناول الأخلاقيات البيئية بشكل أفقي يساوي البشر بباقي الكائنات الطبيعية، وتطبيق المعايير والقيم الأخلاقية الخاصة بالبشر على غيرهم من الفصائل والكائنات، وأكثر هذه المحاولات شيوعا هو "حقوق الحيوان"؛ حيث قدّم بيتر سينجر في كتابه "تحرير الحيوان" (1976) رؤية للدفاع عن رفاهية الحيوان، وأن الحيوان –شأنه شأن الإنسان- من مصلحته أن يتجنب الألم العضوي؛ ولهذا أدان أية محاولة لتقديم مصالح الإنسان على مصالح الحيوان، ووصفها بـ"التعصب النوعي"، فهي تحامل مستبد غير عقلاني يشبه التعصب الجنسي والعنصري. ولكن هذا الاهتمام الغيري بالفصائل الأخرى لا يحتم معاملة متساوية معها، فرأي سينجر لا يمكن تطبيقه على أشكال الحياة الجامدة كالأشجار والصخور والأنهار التي "لا تحتوي على قيمة ما" على حد وصفه.
وكان الفيلسوف الأمريكي توم ريجان في كتابه "الدفاع عن حقوق الحيوان" هو الذي قدّم الفكرة الأكثر راديكالية التي تقول بأن كلا من الإنسان والحيوان له أن يتمتع بالوضع الأدبي نفسه، استنادًا إلى أن كل الكائنات الحية لها صلاحية حيازة الحقوق، ويصعب في مثل هذا الوضع التمييز بين عوالم الإنسان والحيوان بل قد يكون مستحيلا، ومع ذلك أخبر ريجان أنه في الوقت الذي يتم فيه استثمار بعض الحقوق في الجنس البشري بموجب أن البشر قادرون على الفكر العقلي والسيطرة الأدبية على الذات تطبق هذه الحقوق فقط على مجموعات مختارة من الحيوانات وعلى الأخص على الثدييات الطبيعية والتي عمرها سنة أو أكثر.
ويتمثل الموقف الأدبي لعلم البيئة  في أن الطبيعة لها قيمة في حد ذاتها، أي قيمة في جوهرها، ومن هذا المنطلق لا تتعلق الأخلاقيات البيئية بأية حال من الأحوال بالواسطة البشرية، ولا يمكن التعبير عنها بمجرد مد القيم البشرية إلى العالم غير البشري. وحاول جودين (1992) مثلا تقديم "نظرية خضراء في القيم" ترى وجوب تقدير الموارد تحديدًا؛ لأنها نتاج العمليات الطبيعية لا النشاط البشري، وأن هذه القيمة تنبع من حقيقة أن المنظر الطبيعي يساعد الأفراد على استشعار "بعض الإحساس والنمط في حياتهم"، وتقدير "شيء أكبر" من أنفسهم، وبالتالي يأتي تصوير الطبيعة نفسها كأنها مجتمع أخلاقي، وهو ما يعني أن البشر ما هم إلا "مواطنون عاديون" لا يمتلكون حقوقا أو يستحقون احتراما أكثر من أي عضو آخر في الجماعة الطبيعية.
ويملي مثل هذا الموقف الأدبي "مساواة مركزية بيولوجية"، وفي هذا أن يكون جميع الكائنات والكيانات في المجال البيئي لها قيمة أدبية متساوية؛ حيث إن كلا منهم يعد جزءًا من عالم مترابط، ووصف آرن نايس (1989) ذلك بأنه "حق متكافئ في الحياة والازدهار". ولكن اللافت أن هذا الموقف المؤمن بالقيمة في جوهر الطبيعة يخفق في إدراك أن الأخلاق قيمة بشرية مرتبطة بتحسين الحسن وتقبيح القبيح وهذا مصدره العقل والوحي، وأن "طبيعة" الطبيعة تنبع تحديدا من كونها بعيدة لا تعرف الأخلاق بل البقاء فيها للأقوى والقوانين هي قوانين مادية وحسب.
* ما بعد  المادية POST-MATERIALISM
لما كان رفض السلوك الأناني والطمع المادي أحد الموضوعات الثابتة في المذهب البيئي، فقد سعى هذا المذهب إلى تقديم فلسفة بديلة تقوم على الرضا الشخصي والتوازن مع الطبيعة. وبالفعل يشيع ربط نمو الاهتمام بالموضوعات البيئية منذ ستينيات القرن العشرين بظاهرة ما بعد المادية POSTMATERIALISM البارز في كتابات إينجلهارت.
ويرى مذهب ما بعد المادية أنه بينما تغذي ظروف الندرة المادية السلوك الأناني، ستدفع ظروف انتشار الرخاء في الغرب الأفراد لمزيد من الإقبال على موضوعات، مثل "ما بعد المذهب المادي" أو "جودة الحياة"، وتهتم هذه الموضوعات جميعا بالأخلاق والعدالة السياسية والرضا الشخصي، كما تتضمن الحركة النسائية والسلام الدولي والتناغم العنصري وعلم البيئة وحقوق الحيوان.
ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار "المذهب البيئي" واحدًا من الحركات الاجتماعية"الجديدة" التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تلتزم التزاما كبيرا بجدول عمل يتجاوز أسس المجتمع الرأسمالي التقليدي وحداثته إلى ما بعد الحداثة وحقوق الجماعات وتعددية المنظومات القيمية والأخلاقية في سيولة ونسبية كاملة، وهو ما يعيننا على فهم ارتباط حركات البيئة الآن بحركات الراديكالية وبحقوق الشواذ.
فالمذهب البيئي في أحد أبعاده أيضًا يعطي حق التجريب لا في الطبيعة وميزانها بل في الجسد وأحاسيس الإنسان واختياراته وتحقيقه لذاته، وهو ما حذّر منه موراي بوكتشين الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي والمفكر البيئي وأحد النشطاء الراديكاليين، ومن أوائل المفكرين الاجتماعيين الذين تناولوا القضايا البيئية بجدية، والذي يرى أن الأزمة البيئية تعود إلى انهيار النسيج العضوي للمجتمع والطبيعة.
ووصف هذه النزعات المادية بأنها شكل من أشكال "معاداة الإنسانية"؛ حيث رأى أن اختلاقها للأساطير حول "الطبيعة" يمثل سقوطا لثقة الإنسان في طبيعته الاجتماعية المتجاوزة  وتمركزًا حول جسده وإهمالا تامًّا للاهتمامات الأوسع، وهذا في رأيه هو أساس "تحول النموذج" الذي يجب أن  يسعى المذهب البيئي إلى تحقيقه؛ حيث بذونه سيكرر الأخطاء التي ارتكبتها السياسة "القديمة" لعدم قدرتها على تخطي مفاهيمها وافتراضاتها الوضعية، حتى وإن حاولت الحديث عن "الروحانيات" التي هي في ذاتها تجربة فردية خلاصية وليست منظومة أخلاقية متجاوزة.
ويدعو الفيلسوف الأسترالي وورويك  فوكس(1990) لتبني "علم البيئة المتعدي للجانب الشخصي
البيئة  في الأيدلوجيات السياسية

يمكننا من منظور آخر اعتبار المذهب البيئي رؤية أفقية، شأنها في ذلك شأن القومية؛ أي أنها تتجاوز الأيدلوجيات لتصبح موضوعًا ساهمت كل أيدلوجية في تطويره من منظورها. فقد أظهر المحافظون والفاشيون والاشتراكيون و اللاسلطويون (الأناركيون) والحركة النسائية والليبراليون تعاطفا خاصا مع قضايا البيئة ككل، ولكنهم وضعوا أفكارا بيئية تدعم أهدافا سياسية شديدة الاختلاف.
المذهب البيئي اليميني
على الرغم من ارتباط سياسة الخضر الحديثة بالمبادئ والاهتمامات اليسارية بصفة عامة، كالاعتقاد في اللامركزية والعمل المباشر ومعارضة التدرج الهرمي ( الهيراركية) وفكرة التقدم الاقتصادي الخطي، فقد أشارت أنّا برامويل (1989) أن أول ظهور لعلم البيئة السياسي كان ذا توجه يميني بالأساس، وتجلى ذلك بشكل متطرف بظهور المذهب البيئي الفاشي خلال الفترة النازية في ألمانيا، وكان يمثله وولتر داريه الذي كان وزيرًا للزراعة أثناء حكم هتلر من 1933إلى 1942، كما تولى منصب زعيم الفلاحين النازيين، فقد أدت تجربة التحول السريع نحو التقدم الصناعي في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر إلى ظهور حركة قوية تنادي "بالعودة إلى الأرض"، والتي جذبت الطلاب والشباب في حركة الشباب الألماني؛ حيث لجأت أعداد كبيرة من الطلاب إلى التجول في الغابات والجبال للخروج من غربة الحياة في الحضر، وكانت أفكار داريه مزيجا من العنصرية الجرمانية وإعلاء مكانة الحياة الريفية، وقد اندمجت لتصبح فلسفة زراعية حول "الدم والتربة"BLUT UND BODEN تداخلت في مواضع كثيرة مع الاشتراكية القومية
وارتبطت النازية على سبيل المثال بشكل من أشكال المذهب الحيويLebensraum   التي تؤكد دور "قوى الحياة"، وعلى الرغم من ارتباط داريه بالنازية فإن أفكاره تتشابه تشابها كبيرا مع الحركة الخضراء الحديثة، فقد اقتنع في المقام الأول أن الرضا الحقيقي لا يتأتى إلا بالحياة بالقرب من الطبيعة وفوق الأرض؛ ولهذا تمنى إعادة إنشاء ألمانيا الريفية. وردد علماء البيئة المحدثون مثل إدوارد جولد سميث (1988) هذه الأفكار، كما أن داريه أصبح مؤيدا قويا للزراعة العضوية التي تستخدم المخصبات الطبيعية فقط مثل سماد الحيوان وترفض المخصبات الكيميائية تأسيساً على الدورة الطبيعية: "الحيوان-التربة-الغذاء-البشر".
وفي "اليمين المعتدل" soft right أظهر المحافظون تعاطفا مع الموضوعات البيئية. فعلى سبيل المثال وصفت مارجريت تاتشر (المرأة الحديدية) المحافظين في المملكة المتحدة في "خطابها الأخضر" الشهير عام 1988 بأنهم "حماة ورعاة الأرض".
ومثل هذه إدراكات البيئية دأبت على التركيز على موضوع المحافظة على البيئة، أي حماية ما يسمى بالموروث الطبيعي كالغابات والفصائل الحيوانية والنباتية بالتوازي مع حماية الموروث المعماري والاجتماعي، ومن ثم ترتبط المحافظة على الطبيعة بالدفاع عن القيم والمؤسسات التقليدية.
المذهب  الاشتراكي البيئي Ecosocialism
تتميز الحركة الخضراء بطابع اشتراكي غالب، وتجلى ذلك بوضوح بين الخضر  الألمان؛ حيث كان كثير من زعمائهم أعضاء سابقين  للجماعات اليسارية بما فيها المتطرفة، وكثيرا ما يعتمد المذهب الاشتراكي البيئي على التحليل الماركسي، ويرد استنزاف الطبيعة للرأسمالية، وفي الوقت ذاته دأب على استبعاد الأفكار شبه الدينية التي كانت ذات تأثير لدى تيارات عديدة من الحركة البيئية أيضًا على خلفية الفكر الماركسي وموقفه من الدين.
وقد أثار موقف ماركس  فيما يخص العالم الطبيعي جدلا حوله؛ فالبعض يرى إيمانه بالتنمية التقدمية للقوى المنتجة على أنه بيان كلاسيكي عن التقدم الصناعي والبعض الآخر يعتقد أن تناوله للعمل في أعماله الأولى بوصفه "إصباغا للإنسانية" على الطبيعة و"إصباغا للطبيعة" على الإنسان يمثل علامة بيئية لا محالة.
وجوهر المذهب الاشتراكي البيئي يتمثل في أن الرأسمالية هي عدو البيئة، أما الاشتراكية فهي صديقتها. ولكن هذه الصياغة - تماما مثل الحركة النسائية الاشتراكية - تجسد صراعا بين عنصرين، ولكن الصراع هذه المرة بين أولويات "حمراء" و"خضراء". فإذا كانت الكارثة البيئية ما هي إلا نتاج ثاني للرأسمالية فإن حل المشكلات لن يتأتى إلا بسقوط الرأسمالية أو ترويضها على الأقل، تماما مثلما تسعى الحركة النسائية الاشتراكية، وبالتالي على علماء البيئة أن يعملوا في إطار الحركة الاشتراكية، وأن يتناولوا الموضوع الحقيقي المتمثل في النظام الاقتصادي، ولا يركنوا إلى تشكيل أحزاب خضراء متفرقة أو إلى إقامة المنظمات البيئية الضيقة، بل يغيروا النظام برمته الذي كان استنزاف البيئة مجرد أثر من آثاره.
ومن ناحية أخرى أشاع معارضو الاشتراكية النظر إلى الاشتراكية على أنها اعتقاد سياسي آخر "مؤيد للإنتاج" لتأييدها استنزاف ثروات الكوكب لصالح البشرية بأسرها لا لصالح مجموعة محدودة من الرأسماليين، فلا فارق جوهري يحق لها أن تزعمه لنفسها في مواجهة الرأسمالية.
ونتج عن ذلك أنه كثيرا ما رفض علماء البيئة تهميش الأخضر أمام الأحمر، ومنها إعلان الخضر الألمان أنهم "لا يساريين ولا يمينيين"، ونادى العديد من علماء البيئة الاشتراكيين إلى أن الأزمة البيئية شديدة الإلحاح لدرجة أنه يجب أن تكون لها الأولوية عن الصراع الطبقي، مؤكدين أن الاشتراكية بيئية بالأساس، فإذا كانت الثروة ملكية جماعية فإنها تستخدم لصالح الجماعة، وهو ما يعني على المدى البعيد مصالح البشرية.
ولكن تجربة اشتراكية الدولة في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية نتج عنها بعض من أكثر المشكلات البيئية، فقد قامت الأولويات الاقتصادية في الشرق الشيوعي -كما في الغرب الرأسمالي -على تتبع خط النمو الكمي، وفي ستينيات القرن العشرين مثلا أعيد شق طريق النهرين الأساسين اللذين يغذيان بحر "أرال" في أسيا المركزية السوفيتية لزراعة القطن والأرز، ونتج عن ذلك أن انكمش حجم بحر "أرال" الذي كان رابع أكبر بحيرة في العالم إلى نصف حجمه الطبيعي، كما تراجعت شواطئه100 كيلومتر في بعض المناطق مخلفة صحراء مالحة وملوثة.
وكان انفجار تشيرنوبل النووي في أوكرانيا 1986 أكثر الكوارث البيئية المعلن عنها حيث أجبر دوي الانفجار النظام السوفيتي على مزيد من الصراحة بخصوص المشكلات البيئية بصفة عامة.
وفي عصر ما بعد الشيوعية انطلقت جماعات الاحتجاج البيئية من الاتحاد السوفيتي، ولكن من الملاحظ أن هذه الجماعات قلما اعتنقت المذهب  الاشتراكي البيئي، بل ارتبطت أكثر بالمناحي السياسية المعارضة للاشتراكية كتجربة ضاغطة وشمولية بخلاف الحركة الخضراء في الغرب.
المذهب  الأناركي البيئي
تبدو اللاسلطوية أكثر الأيديولوجيات حساسية تجاه البيئة، فقبل أن يصدر كارسون كتابه المهم "الربيع الصامت" كان بوكتشين قد نشر كتابه الرصين "بيئتنا المصطنعة" (1962)، ويدين الكثير في "الحركة الخضراء" بأفكارهم إلى الشيوعيين الفوضويين الذين ينتمون إلى بواكير القرن العشرين، خصوصا بيتر كروبوتكين. ورأى بوكتشين توازيا واضحا بين أفكار الفوضوية ومبادئ علم البيئة التي جاء التعبير عنها في فكرة "علم البيئة الاجتماعي"، وهو الاعتقاد أن التوازن البيئي هو أساس الاستقرار الاجتماعي.
ويؤمن الفوضويون بمجتمع بلا دولة يتولد فيه التناغم من الاحترام المتبادل والترابط الاجتماعي بين الأفراد؛ فيقوم رخاء مثل هذا المجتمع على التنوع والاختلاف. ويؤمن علماء البيئة كذلك أن التوازن والتناغم يتولدان بصورة تلقائية في الطبيعة فيظهر على شكل أنظمة بيئية لا تتطلب سلطة أو رقابة خارجية تمامًا، مثل المجتمعات اللاسلطوية التي تتخلى عن مؤسسة الدولة المركزية وتهمشها، ومن ثم يتوازى رفضهم  للحكومة في المجتمع البشري وتحذيرات علماء البيئة من "الحكم" البشري في العالم الطبيعي؛ لذا شبه بوكتشين المجتمع اللاسلطوي بالمنظومة البيئية، ورأى أن كليهما يميزه احترام مبادئ التنوع والتوازن والتناغم.
وأيد الفوضويون بناء مجتمع لا مركزي  ينظم كمجموعة من القرى والجماعات  وتكون الحياة فيه قريبة من الطبيعة؛ حيث تسعى كل جماعة لتحقيق درجة كبيرة من الاكتفاء الذاتي. ويتنوع اقتصاد هذه الجماعات فينتجون الغذاء إلى جانب نطاق واسع من السلع والخدمات الأخرى، وبالتالي ينضوي اقتصادهم على الزراعة والأعمال الحرفية والصناعات الصغيرة، ويحث الاكتفاء الذاتي كل مجتمع على الاعتماد على بيئته الطبيعية فيتأتى فهم العلاقات العضوية وعلم البيئة بالتبعية. ويرى بوكتشين أن اللامركزية ستؤدي إلى" استخدام أكثر حكمة  للبيئة" فالمجتمع الذي ينظمه التراحم التلقائي بين الأفراد من شأنه أن يشجع التوازن البيئي بين الأفراد والعالم الطبيعي.
وتأثر تصور علماء البيئة عن المجتمع الصناعي دون شك بكتابات كروبوتكين وويليام موريس، فقد تبنت الحركة الخضراء من الفكر الأناركي أيضا أفكارا كاللامركزية وديمقراطية المشاركة والعمل المباشر، ولكن على الرغم مما تقدمه الأناركية من تصور لمستقبل بيئي صحي فقلما تتخذ كوسيلة لتحقيق ذلك، فأنصارها يؤمنون بأن التقدم لن يكون ممكنا إلا بسقوط الحكومة وجميع أشكال السلطة السياسية، بينما ينظر الكثير في الحركة الخضراء إلى الحكومة على أنها أداة لتفعيل العمل الجماعي وتنظيمه، وبالتالي تصبح الحكومة حتى لو على المدى القصير أنسب الوسائل لمواجهة الأزمة البيئية، وهم يخشون من أن القضاء على الحكومة أو حتى إضعافها قد يطلق العنان للقوى التي أحدثت التقدم الصناعي وأفسدت البيئة الطبيعية في المقام الأول.
الحركة النسائية البيئية
تقدم الحركة النسائية  تناولا فريدا ومميزا للموضوعات الخضراء إلى حد أن تطورت الحركة النسائية البيئية لتصبح أحد أكبر المدارس الفلسفية للفكر البيئي، وموضوعها الأساسي يتمثل في أن جذور الدمار البيئي تعود إلى البطريركية الذكورية؛ فالطبيعة معرضة  للتهديد لا من قبل الجنس البشري كله ولكن من قبل الرجال ومن مؤسسات سلطة الرجل.
ومؤيدو الحركة النسائية الذين يتبنون موقفا جندريًا Gender Perspective  من الطبيعة البشرية (لا يميزون بين الذكورة والأنوثة وينكرون الفروق بينهما)  يرون أن البطريركية قد شوهت غرائز وأحاسيس الإنسان عبر عالم التنشئة "الخاص" والعلاقات الشخصية و الأسرية، ومن ثم فإن التقسيم القائم على الجنس (المرأة للبيت/ والرجل للكسب والإنفاق) من شأنه أن يحث الرجل على التقليل من قدر المرأة والطبيعة؛ حيث يرى الرجل نفسه "سيداً" لكليهما، ومن هذا المنظور يمكن تصنيف علم الحركة النسائية البيئي  كشكل خاص من علم البيئة الاجتماعي.
والتناقض الطريف أننا نلاحظ تبني الكثير من مؤيدي الحركة النسائية البيئية المذهب الحتمي essentialism؛ حيث تقوم نظرياتهم على الاعتقاد في الاختلافات الجذرية والحتمية بين الرجل و المرأة والتأكيد على أن المرأة أكثر حفاظاً على الطبيعة؛ لأنها الأم حاملة قيم الرعاية والرحمة، وهو ما يؤدي إلى مركزية الأنثى في النهاية.
وقد تبنت ماري دالي مثلا مثل هذا الموقف في علم أمراض النساء من منظور  البيئة؛ حيث رأت أن المرأة ستحرر نفسها من الثقافة البطريركية الأبوية الذكورية إذا تحالفت مع "طبيعتها الأنثوية".
 والمفهوم الذي يربط المرأة بالطبيعة ليس بجديد، فديانات ما قبل المسيحية والثقافات البدائية طالما صورت الأرض والقوى الطبيعية كإله، وقد أُحييت هذه الفكرة من جديد في افتراض جايا السابق الذكر. ومؤيدو الحركة النسائية المحدثون يبرزون القاعدة البيولوجية لقرب المرأة من الطبيعة في حقيقة حملها للأطفال وإرضاعهم، كما يشكل التصاق المرأة بالإيقاعات والعمليات الطبيعية توجهها السياسي والثقافي.
ومن ثم تتمثل القيم "الأنثوية" التقليدية في مبدأ المعاملة بالمثل والمشاركة والتنشئة، وهي قيم "لينة" ذات طابع بيئي، وإذا كانت ثمة رابطة "حتمية" أو "طبيعية" تربط بين المرأة والطبيعة؛ فلأن علاقة الرجل بالبيئة تختلف اختلافًا شديدًا، فبينما المرأة تعتبر كائنا طبيعيا يعد الرجل كائنا ثقافيا، فعالم الرجل صناعي من صنع الإنسان، وهو نتاج الإبداع البشري لا الإبداع الطبيعي؛ إذًا يتقدم الفكر في عالم الرجل على الحدس ترتيبا، وتتفوق القيمة المادية على الروحانية، كما يكون الاهتمام بالعلاقات الميكانيكية أكثر من العلاقات الكلية holistic .
 انعكس ذلك في الصعيد السياسي والثقافي في الإيمان بتحقيق الذات والتنافس والتدرج الهرمي وإيحاءات ذلك للعالم الطبيعي واضحة، ومن هذا المنظور تسيطر الثقافة من خلال البطريركية على البيئة؛ حيث تصبح الطبيعة ما هي إلا قوى وجب تسخيرها أو استنزافها أو تخطيها. وبالتالي يمثل كل من الدمار البيئي وعدم المساواة القائم على النوع جزءًا من عملية هيمنة الرجل"المثقف" على المرأة"الطبيعية"، وهي رؤية تكرس الصراع في دائرة مفرغة موظفة البيئة كموضوع لتكريس التمركز حول الأنثى.
مستقبل المذهب البيئي في القرن الحادي والعشرين

قد تبدو التوقعات بخصوص المذهب البيئي للقرن الحادي والعشرين شديدة الارتباط بحالة الأزمة البيئية والمستوى العام لفهم القضايا والمشكلات البيئية؛ فمن المتوقع أن يزيد البحث عن بديل للتقدم الصناعي المولع بالنمو، وإحدى المشاكل التي تواجه الأحزاب الخضراء أن منافسيهم قد اتخذوا مواقف "صديقة للبيئة" كانت قبل ذلك حكرًا على الخضر (مثلما اتخذت الرأسمالية بعد نقد الشيوعية لها سياسات دولة الرفاهة والحقوق الاجتماعية)؛ إذ لن يكون للجنس البشري بدٌّ في القرن الحادي والعشرين من قلب السياسات والممارسات التي كادت أن تدمر كل من الجنس البشري والعالم الطبيعي.
وتواجه النظرية البيئية عددًا من المشكلات:
الأولى: صعوبة جعل المذهب البيئي أيديولوجية عالمية، فيبدو أن القيود التي تكبل الدول النامية قد سلبتها فرصة اللحاق بركب الغرب، حيث تطورت الدول الغربية بالصناعات الكبيرة وباستنزاف الموارد المحدودة والتلوث... إلخ، وهي ممارسات يسعون الآن إلى إنكارها على الدول الساعية للتقدم. والغرب الصناعي مثله مثل العالم النامي غير مهيأ لأخذ الأولويات البيئية في الاعتبار، حيث يعني ذلك التخلي عن الرخاء الذي ينعم به بوصفه أكبر مستهلك للطاقة والموارد.
والمشكلة الثانية: تتمثل في الصعوبات التي تحف رسالة المذهب البيئي المعادية للنمو، فسياسة النمو المستديم أو اللانمو قد تكون غير مشجعة للجماهير بحيث تستحيل عمليًا كخيار انتخابي.
ثالثًا: قد يكون المذهب الأخضر greenism ما هو إلا بدعة حضرية أو شكل من أشكال رومانسية ما بعد الحركة الصناعية، وهو ما يملي أن الوعي البيئي ما هو إلا رد فعل مؤقت للتقدم الصناعي، ويميل إلى الاقتصار على الشباب والأغنياء الذين يملكون ترف الاحتجاج.
           رابعاً: أن الرؤية البيئية صعبة التحقيق لو استقام الناس عليها؛ لأنها تتضمن تضحيات لا يريد الكثيرون تقديمها ويفضلون المصالح العاجلة، فالبيئية الحقيقية أكثر راديكالية من الاشتراكية والفاشية والحركة النسائية أو أي اعتقاد سياسي آخر، فهذا المذهب لا يقتصر على المطالبة بتحول النظام الاقتصادي أو إعادة تنظيم العلاقات بين السلطات داخل النظام السياسي فحسب، بل لا يرضى بأقل من إقامة نمطا جديدًا للوجود أي أسلوب مختلف في تجربة الوجود وفهمه. والأكثر من ذلك أن نظرياته وقيمه وأحاسيسه تتعارض كلية مع تلك الخاصة بالمجتمعات التي يهيمن عليها التقدم الصناعي.

البيئة والاستخلاف الرباني: مدخل نظرية المقاصد

ربما يثير اللبس دومًا البحث عن مصطلح من لغة ما في فكر لغة أخرى، وعند افتقاده يقال بأن هذا الفكر لم يقدم إسهامًا تحت هذا المصطلح أو العنوان، وهو ما يقال أحيانًا بشأن موقف الإسلام من حقوق الإنسان ومن قضايا البيئة ومن حقوق المرأة، في حين أن النظر للإشكاليات في جوهرها والألفاظ في معانيها مشترك بين العقول ومتكرر في أي سياق حضاري رغم اختلاف التوصيف والتصنيف، وبذلك لو أخذنا معالم نظرية البيئة لوجدنا الفقه الإسلامي القديم والحديث قد تعرض لمكوناتها، ولكن في المواضع التي ترتبط بها في مجال العقيدة أو العبادة أو التشريع القانوني بأقسامه، أي في مكانها من خريطة العقل المسلم في تكييفه لها، فالرؤية الكلية   Holistic تدخل في المكونات الإبستمولوجية للنظرية البيئية، وتدخل في المقابل في العقيدة الإسلامية التي ترى الإنسان سيدًا في الكون -لا سيدًا للكون-، ومستخلفًا من الله على الكون بكائناته ومخلوقاته، فلا هي مركزية بشرية يستنزف فيها الإنسان الطبيعة، ولا هي مركزية للطبيعة تساوي بين الإنسان والمادة والإنسان والحيوان، وتتجاهل خالق الكون ورسالة البشر وأمانتهم المسئولة في الدنيا.. واليوم الآخر.
والاستدامة تدخل في نظرية المقاصد في العدل كمقصد وحفظ المال، ومراتب هذا الحفظ من حفظ بقاء لحفظ أداء لحفظ نماء. والقيم الأخلاقية لا تقتصر على المسئولية تجاه الأجيال بل المسئولية أمام الله بالأساس عن الموارد والكائنات، بدءاً من التوجيه النبوي بعدم الإسراف في الماء ولو للوضوء، مروراً بالرحمة الواجبة بالحيوانات التي قد تدخل الجنة ونقيضها قد يدخل النار-مع تسخيرها للإنسان للأكل والانتفاع-، وأخيرًا -وليس آخرًا- بالتواصل مع كل مكونات الكون النباتية بل و الجمادات التي يؤمن الإنسان بأنها تسبح لله.
ويحكم الإنسان في كل موقف ميزان الضرر والنفع، في الحال والمآل.
والأمة توفر لسياسات البيئة التمويل عبر الأوقاف ، وتضمن الالتزام بالقواعد والنظم بالقانون، والأهم من ذلك عبر إدماجها في السلوكيات والآداب اليومية العبادية والفردية والجماعية.
وفي مقابل رؤية الأيدلوجيات للبيئة كدائرة حيوية يجعلها الإسلام أمانة على الإنسان التعامل معها بمنطق العمارة، والإنسان هنا يحمل قيمًا ربانية، ويستوي في حملها الرجال والنساء؛ فليست المرأة أقرب للطبيعة من الرجل، ولا هو أكثر إفسادا لطبع فيه من النساء كما تذهب النسوية، بل المناط التقوى والالتزام بالعدل والقسط، والرحمة صفة المؤمن وليست شيمة النساء، وهكذا في كل قضية تندرج تحت نظرية البيئة وتجد لها في خريطة الفكر والفقه الإسلامي موضعًا يرتبط بملامح تلك الخريطة المتأسسة على عقيدة التوحيد لله الأعلى الذي خلق الإنسان ويسأله في يوم لقيامة عما استرعاه.
ومن اللافت أن أجندة التيارات الإسلامية السياسية المعاصرة لم تستنبط هذه المقاصد المرتبطة بالبيئة، وتصوغها بلسان معاصر تأسيسًا على تراث غني، بل انصرفت لرؤية مركزية للدولة، وبالتالي لتعريف ضيق للسياسة همّش قضايا البيئة رغم كونها من أولويات المشروع الحضاري الإسلامي في الواقع البيئي الدولي الراهن.  

ليست هناك تعليقات: