الأحد، 2 أكتوبر 2011

الفصل الأول: الغيبة


قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وقد اختلف العلماء في حدِّ الغيبة. فقال الراغب: ((هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك)).
وقال الغزالي: ((حدّ الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه)).
وقال ابن الأثير في النهاية: ((الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه)).
وقال النووي في كتابه الأذكار تبعاً للغزالي: ((الغيبة ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز)).
قال ابن التين: ((الغيبة ذكر المرء بما يكره بظهر الغيب)).
وقال الإمام النووي رحمه الله: ((ومن ذلك قول كثير من الفقهاء في التصانيف: قال بعض من يدّعي العلم، أو بعض من ينسب إلى الصلاح... ممن يفهم السامع المراد به)).
ومنه قولهم عند ذكره: ((الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة... فكل ذلك من الغيبة ))([1]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((واختُلِفَ في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان؟ والراجح التغاير، وأن بينهما عموماً وخصوصاً وجيهاً. وذلك؛ لأن النميمة نقل حال شخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه، سواءً كان بعلمه أم بغير علمه.

قال الله تعالى: ] لاَّ يُحِبُّ الله الْـجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ الله سَمِيعًا عَلِيمًا [([4]).
وقال I:  ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [([5]).
وقال سبحانه:  ]وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّـمَزَةٍ [([6]).
وقال U:  ]مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [([7]).
وقال سبحانه: ]وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [([8]).
والغيبة: آفة خطيرة من آفات اللسان، ولقد عرَّفها النبي r بقوله في حديث أبي هريرة t: ((أتدرون ما الغيبة؟ )) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته ))([9]).
وعن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي r: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال: ((لقد قُلْتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته))، قالت: وحكيت له إنساناً، فقال: ((ما أحب أني حكيت إنساناً، وأنّ لي كذا وكذا))([10]).
وعن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r: ((لـمَّا عُرج بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم ))([11]).
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه،ولا يخذله،كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))([12]).
وعن أبي هريرة t قال:قال رسول الله r:((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا،ولا يبعْ بعضُكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا))، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ))([13]).
ولا شك أن غيبة المسلم الميت أفحش من غيبة الحي وأشد؛ لأن عفو الحي واستحلاله ممكن بخلاف الميت([14])، فقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي r: ((إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه ))([15]).
وعن أبي برزة الأسلمي t قال: قال رسول الله r: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتّبعَ عوراتِهمْ يتّبع الله عورتَهُ، ومن يتبعِ الله عورته، يفضحْهُ في بيته))([16]).
وعن المستورد بن شداد t أن النبي r قال: ((من أكَلَ برجلٍ مسلمٍ أُكْلةً فإن الله يُطعِمُهُ مثلها من جهنم، ومن كُسِيَ ثوباً برجلٍ مسلمٍ فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياءٍ؛ فإن الله يقوم به مقام سُمعة ورياء يوم القيامة ))([18]).
وهذا الحديث فيه الوعيد لمن أكل أكلةً برجل مسلم:أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه، أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه،أو كُسِيَ ثوباً بسبب إهانته.فإن الله U يطعمه من جهنم مثل ما طعم بهذا الرجل المسلم، ويكسوه من جهنم مثل ما كُسِيَ؛لأن الجزاء من جنس العمل([19]).والله أعلم.
ومعنى ((من قام برجل مسلم...)) ذكروا له معنيين:
المعنى الأول:أن الباء للتعدية، أي أقام رجلاً مقام سمعة ورياء، ووصفه بالصلاح، والتقوى، والكرامات، وشهره بها وجعله وسيلة إلى تحصيل أغراض نفسه وحطام الدنيا، فإن الله يقوم بعذابه وتشهيره، لأنه كان كاذباً.
والمعنى الثاني: أن الباء للسببية، وقيل: هو أقوى وأنسب أي من قام برجلٍ من العظماء من أهل المال والجاه مقاماً يتظاهر فيه بالصلاح والتقوى؛ ليعتقد فيه، ويصير إليه المال والجاه، أقامه الله مقام المرائين، ويفضحه ويعذبه عذاب المرائين([20]).
وقد يحتمل أن تكون الباء في ((برجل )) للتعدية والسببية، فإن كانت للتعدية يكون معناه: من أقام رجلاً مقام سمعة ورياء، يعني: من أظهر رجلاً بالصلاح والتقوى، ليعتقد الناس فيه اعتقاداً حسناً، ويُعِزُّونه ويخدمونه؛ لينال بسببه المال والجاه، فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء بأن يأمر ملائكته بأن يفعلوا معه مثل فعله، ويظهروا أنه كذاب.
وعن أسامة بن شريك t قال: شهدتُ الأعرابَ يسألون النبي r أعلينا حرج في كذا؟ أعلينا حرج في كذا؟ [لأشياء ليس بها بأس]، فقال لهم: ((عباد الله وضع الله الحرج، إلا من اقترض من عرض أخيه شيئاً فذلك الذي حرج وهلك... )) ([22]) .
وعن سعيد بن زيد t عن النبي r قال: ((إن من أربى الرِّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق )) ([23]) .
بيّن النبي r أن من أربى الربا إطالة اللسان في عرض المسلم باحتقاره، والترفع عليه, والوقيعة فيه بقذف، أو سب، ونحو ذلك، فإن ذلك أكثر الربا، وأشده تحريماً؛ لأن العرض أعز على النفس من المال.
وقد أدخل r العرض في جنس المال على سبيل المبالغة،وجعل الربا نوعين:
وغير متعارف: وهو استطالة الإنسان في عرض المسلم بغير حقّ، وبيَّن أنّ أشد النوعين تحريماً هو الاستطالة في عرض المسلم بغير حق([24]). أما إذا كانت الاستطالة بحق فيجوز لصاحب الحق بشروط وبقيود بيّنها أهل العلم، وسيأتي بيان ما تجوز فيه الغيبة إن شاء الله تعالى.
وفي حديث أبي هريرة عند الحافظ أبي يعلى وغيره قصة ماعز الذي جاء إلى رسول الله r وطلب منه أن يُطهِّره من الزنا، فأعرض عنه رسول الله r حتى قالها أربعاً، فلما كان في الخامسة قال: ((زنيتَ ))؟ قال: نعم. ثم سأله رسول الله r حتى ثبت عنده زنا ماعز فأمر برجمه فرُجم. فسمع النبي r رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم ترَ إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعْه نفسُه حتى رُجِمَ رَجمَ الكلب؟ ثم سار النبي r حتى مر بجيفة حمار فقال: ((أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار )) قالا: غفر الله لك يا رسول الله،وهل يُؤكل هذا؟قال r:((فما نلتما من أخيكما آنفاً أشدُّ أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)) ([25]).
وعن جُندب بن عبد الله t قال: سمعت رسول الله r يقول: ((من سمّع سمَّع الله به يوم القيامة ))، قال: ((ومن شاقّ شقّ الله عليه يوم القيامة ))، فقالوا: أوصنا، فقال: ((إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيباً فليفعل، ومن استطاع أن لا يُحال بينه وبين الجنة بملء كفٍّ من دم هراقه فليفعل )) ([26]).
وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي r أنه قال: ((اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشققْ عليه. ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفُقْ به)) ([28]).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((اعلم أنه ينبغي لمن سمع غِيبة مسلم أن يردّها، ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد، ولا باللسان فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق، أو من أهل الفضل والصلاح، كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر))([29]).
وعن عتبان t في حديثه الطويل المشهور قال: قام النبي r يصلي، فقالوا: أين مالك بن الدخيشن، أو ابن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله، ورسوله. فقال النبي r: ((لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله )) قال: قالوا: الله ورسوله أعلم. قال فإنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين. قال: فقال رسول الله r: ((فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) ([30]).
وعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة y قالا: قال رسول الله r: ((ما من امرئٍ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته ))([31]).
وعن أبي الدرداء t عن النبي r أنه قال: ((من ردّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) ([32]).
وعن أسماء بنت يزيد عن النبي r قال: ((من ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار )) ([33]).
وعن كعب بن مالك t في حديثه الطويل في قصة توبته قال: قال النبي r وهو جالس في القوم في تبوك: ((ما فعل كعب بن مالك ))؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل t: ((بئس ما قلت: والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً ))، فسكت رسول الله r))([34]).
السبب الأول: هو محاولة الانتصار للنفس، والسعي في أن يشفي المغتاب الغيظ الذي في صدره على غيره، فعند ذلك يغتابه أو يبهته، أو ينقل عنه النميمة.
السبب الثاني: الحقد للآخرين والبغض لهم، فيذكر مساوئ من يبغض؛ ليشفي حقده، ويبرِّد صدره بغيبة من يبغضه ويحقد عليه. وهذا ليس من صفات المؤمنين كاملي الإيمان، نسأل الله العافية.
السبب الثالث: إرادة رفعة النفس، وخفض غيره، كأن يقول: فلان جاهل، أو فهمه ضعيف، أو سقيم، أو عبارته ركيكة تدرجاً إلى لفت أنظار الناس إلى فضل نفسه، وإظهار شرفه بسلامته عن تلك النقائص التي ذكرها في مَنِ اغتابه، وهذا من الإعجاب بالنفس، نعوذ بالله من ذلك، وهو من المهلكات التي بيّنها رسول الله r.
السبب الرابع: موافقة الجلساء والأصحاب، والأصدقاء، ومجاملتهم فيما هم عليه من الباطل؛ لكي يُكسَب رضاهم حتى ولو كان ذلك بغضب الله U، وهذا من ضعف الإيمان وعدم مراقبة الله U.
السبب الخامس: إظهار التعجب من أصحاب المعاصي:
السبب السادس: السخرية والاستهزاء بالآخرين والاحتقار لهم.
السبب السابع: الظهور بمظهر الغضب لله على من يرتكب المنكر، فيظهر غضبه، ويذكر اسمه مثل أن يقول فلان لا يستحيي من الله يفعل كذا وكذا، ويقع في عرضه بالغيبة.
السبب الثامن: الحسد، فيحسد المغتاب من يُثني عليه الناس ويحبونه فيحاول المغتاب الحسود قليل الدين والعقل أن يزيل هذه النعمة فلا يجد طريقاً إلى ذلك إلا بغيبته، والوقوع في عرضه، حتى يزيل نعمته أو يقلل من شأنه عند من يثنون عليه. وهذا من أقبح الناس عقلاً، وأخبثهم نفساً نسأل الله العافية.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله r أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقيُّ النّقيُّ، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد )) ([35]).
السبب التاسع: إظهار الرحمة والتّصنُّع بمواساة الآخرين، كأن يقول لغيره من الناس: مسكين فلان قد غمني أمره،وما هو فيه من المعاصي...
السبب العاشر:التصنّع،واللعب،والهزل،والضحك فيجلس المغتاب خبيث النفس فيذكر عيوب غيره مما يضحك به الناس فيضحك الناس، فعند ذلك يرتاح ويزيد من الكذب والغيبة على سبيل الهزل والنكت والإعجاب بالنفس.وهذا ينطبق عليه حديث النبي r الذي قال فيه: ((ويلٌ للذي يُحدِّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب،ويلٌ له،ويلٌ له )) ([36]).
السبب الحادي عشر: هو أن ينسب إليه فعلاً قبيحاً فيتبرأ منه ويقول: فلان الذي فعله، ومحاولة إلقاء اللوم والتقصير على غيره؛ ليظهر بمظهر البريء من العيوب.
السبب الثاني عشر: الشعور بأن غيره يريد الشهادة عليه، أو تنقيصه عند كبير من الكبراء، أو صديق من الأصدقاء، أو سلطان فيسبقه إلى هذا الكبير ويغتابه؛ ليسقط من عينه، وتسقط عدالته، أو مروءته([37]).

العلاج الأول: هو أن يعلم الإنسان أنه إذا وقع في الغيبة فهو مُتعَرِّضٌ لسخط الله تعالى ومقته، كما دلت عليه الأحاديث السابقة وغيرها من الأحاديث الصحيحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلُغ ما بلغت فيكتُبُ الله U له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلمُ بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أن تبلُغ ما بلغت فيكتُب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه )) ([38]).
العلاج الثاني: عليه أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة إنما يتم بقطع سببها المستمدة هي منه.
فإذا كان سبب الغيبة الغضب فعليه أن يقول: إن أمضيت غضبي عليه فأنا أخشى الله أن يمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة، فإن الله قد نهاني عنها فعصيته واستخففت بنهيه.
وإذا كان سبب الغيبة موافقة الآخرين وطلب رضاهم، فعليك أن تعلم أن الله يغضب عليك إذا طلبت سخطه برضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن تسخط مولاك من أجل إرضاء المخلوقين الذين لا ينفعون ولا يضرّون، وإن كان الغضب لله فلا تذكر المغضوب عليه بسوء لغير ضرورة، بل ينبغي أن تغضب على من اغتابه إلا إذا كان من باب تحذير المسلمين عن الشر. وهذا سيأتي فيما يجوز من الغيبة.
وإذا كان سبب الغيبة: هو تنزيه النفس ونسبة الخيانة إلى غيرك، فاعلم أن التعرض لمقت الله أشد من التعرّض لمقت الخلق، وأنت بالغيبة قد تعرّضت لسخط الله يقيناً، ولا تدري هل تسلم من سخط الناس أو لا تسلم، والذي يُرضي الناس بسخط الله يسخط الله عليه ويُسْخِط عليه الناس...!
وإذا كان: سبب الغيبة هو الرغبة في أن تزكي نفسك بزيادة الفضل، وذلك بقدحك في غيرك حتى تشعر الناس أنك تتصف بخلاف ما يتصف به من اغتبته، فاعلم أنك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله تعالى إن كان لك فضل وأنت من اعتقاد الناس فضلك لست على يقين، وعلى تقدير أنهم يفضلونك فأنت سينقص فضلك أو يزول بالكلية إذا عرفوك بغيبة الناس والوقوع في أعراضهم، فأنت بعت ما عند الله يقيناً بما عند الناس وهماً، ولو اعتقدوا فضلك لم يغنوا عنك من الله شيئاً لأن قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء، فعليك أن تتدبّر دقائق الأمور ولا تغترّ بظواهرها.
وإذا كان الباعث على الغيبة: هو الحسد فأنت قد جمعت بين عذابين؛ لأنك حسدته على نعمة الدنيا فكنت مُعذَّباً بالحسد، وذلك؛ لأن الحاسد يجد الهمّ والغمّ وضيق الصدر، ثم لا يقنع بذلك حتى يُضاف إليه عذاب آخر يوم القيامة، فالحاسد قد جمع خسران الدنيا والآخرة، وهو في الحقيقة صديق للمحسود عدو لنفسه؛ لأنه يضيف حسناته إلى حسنات المحسود، ويتحمل من سيئاته إن لم يكن للحاسد حسنات مع أن الحسد، والغيبة لا تضر المحسود بل ربما كان ذلك سبباً لانتشار فضله.
وإذا كان الباعث على الغيبة هو الاستهزاء والسخرية فينبغي للحاسد أن يعلم أنه متى استهزأ بغيره عند الناس فإن ذلك يكون مخزياً لنفسه عند الله ثم عند خلقه، وهذه هي الخسارة بعينها.
أما إذا كان السبب الباعث على الغيبة هو التعجب والضحك، فإنه ينبغي للمغتاب أن يتعجب من نفسه كيف أهلك نفسه بنفس غيره وكيف نقص دينه بكمال دين غيره أو بدنياه، فهو مع ذلك لا يأمن عقوبة الدنيا ويخشى على المغتاب أن يهتك الله ستره ويفضحه في الدنيا قبل الآخرة كما هتك بالتعجب ستر أخيه.
قال الله تعالى: ]لاَّ يُحِبُّ الله الْـجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ الله سَمِيعًا عَلِيمًا [([41]) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند أم معاوية لرسول الله r: ((إن أبا سفيان رجل شحيح فهل عليَّ جُناح أن آخذ من ماله سراً ))؟ قال: ((خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف )) ([42]) .
وعن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله r، فذكرت ذلك له فقال: ((ليس لك عليه نفقة))، فأمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم قال: ((تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدّي عند ابن أمّ مكتوم: فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني))، قالت: ((فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني: فقال رسول الله r: ((أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه([43])، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد))، فكرهته ثم قال: ((انكحي أسامة))، فنكحته فجعل الله فيه خيراً واغتبطت )) ([44]).
وعن عروة بن الزبير t أن عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت: استأذن رجل على رسول الله r فقال: ((ائذنوا له، بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة)). فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم أَلنتَ له الكلام. قال: ((أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس - أو ودعه الناس - اتقاء فحشه )) ([45]).
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه بقوله: ((باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم: الطويل، والقصير، وقال النبي r: ((ما يقول ذو اليدين ))، وما لا يراد به شين الرجل )) ([46]).
قال الإمام البخاري رحمه الله: ((باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب...)) ([50]).
قال الحافظ بعد ذلك: ((ويستنبط منه([51])أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه من ذلك من الغيبة المذمومة... ثم قال: قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعاً...: كالظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة، والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، وكذا من رأى متفقِّهاً يتردَّد إلى مبتدع...))(1).

# # #



([1])  فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/469، والأذكار للنووي، 288-290.
([2])  فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/473.
([3])  انظر: الأذكار النووية، 289.
([4])  سورة النساء، الآية: 148.
([5])  سورة الحجرات، الآية: 12.
([6])  سورة الهمزة، الآية: 1.
([7])  سورة ق، الآية: 18.
([8])  سورة الإسراء، الآية: 36.
([9])  أخرجه مسلم،كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، برقم 2589، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/142.
([10])  أخرجه أبو داود، كتاب الآداب، باب في الغيبة، برقم 4875، وانظر: عون المعبود، 13/223، وصحيح الجامع، 5/31.
([11])  أخرجه أبو داود، كتاب الآداب، باب في الغيبة، برقم 4878، وانظر: عون المعبود، 13/223، قال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تعليقه على الأذكار للنووي، ص29: ((وهو حديث حسن)). وانظر: صحيح الجامع، 5/51.
([12])  أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، برقم 2564، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4882، والترمذي واللفظ له، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، برقم 1927، وقال: ((هذا حديث حسن غريب)).
([13])  أخرجه مسلم،كتاب البر والصلة والآداب،باب تحريم ظلم المسلم،برقم 2564،والترمذي 4/325.
([14])  انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/242.
([15])  أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن سب الموتى، برقم 4899، وانظر: صحيح الجامع، 1/279 وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 285.
([16])  أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4880، وأحمد، 4/421، 424، وانظر: صحيح الجامع للأ لباني، 6/308، برقم 3549.
([17])  انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/224.
([18])  أخرجه أبو داود،كتاب الأدب،باب في الغيبة،برقم 4881،وأحمد،4/229،والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 4/128، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/643، برقم 934.
([19]) انظر: عون المعبود، 13/225.
([20]) انظر: عون المعبود، 13/225.
([21]) المرجع السابق، 13/226.
([22])أخرجه أحمد بنحوه، 4/278، والحاكم بلفظه، 4/199، و4/499، وصححه ووافقه الذهبي. وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3436، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الطب، باب الأمر بالدواء، برقم 7512، وأبو داود، كتاب المناسك، باب فيمن قدّم شيئاً قبل شيء في حجه، برقم 2015، والحديث صححه العلامة الألباني، انظر: صحيح ابن ماجه، 2/252، وصحيح الجامع، 6/294.
([23]) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4876، وأحمد، 1/190، وانظر: صحيح الجامع، 2/442.
([24]) انظر: عون المعبود، 13/222.
([25]) أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، برقم 4428، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب الرجم، باب ذكر استقصاء الإمام على المعترف عنده بالزنا...، برقم 7126، والبيهقي، 8/227، وذكره بلفظه ابن كثير في تفسيره، 4/216، وقال: ((إسناده صحيح))، وعزاه إلى أبي يعلى.
([26]) أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب من شاق شاق الله عليه، برقم 7152.
([27]) فتح الباري، لابن حجر، 13/130.
([28]) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، برقم 1828.
([29]) الأذكار للنووي، 294.
([30]) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، برقم 425، وكتاب الأطعمة، باب الخزيرة، برقم 5401،  ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، برقم 33.
([31]) أبو داود، كتاب الأدب، باب من ردّ عن مسلم غيبة، برقم 4884، وأحمد، 4/30، وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: ((إنه حديث حسن )). انظر: صحيح الجامع الصغير، 5/160.
([32]) أخرجه أحمد،6/450،والترمذي،كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الذب عن عرض المسلم، برقم 1931، قال: ((وفي الباب عن أسماء بنت يزيد))، ثم قال: ((هذا حديث حسن)). وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: ((إنه حديث صحيح)). انظر: صحيح الجامع الصغير، 5/295.
([33]) أحمد، 6/461، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/95: ((رواه أحمد والطبراني وإسناد أحمد حسن ))، وانظر: صحيح الجامع، برقم 6116، فقد رمز إليه بالصحة.
([34]) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، برقم 4418، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، برقم 2769.
([35]) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، برقم 4216، وانظر: صحيح ابن ماجه، 2/411، والأحاديث الصحيحة، برقم 948.
([36]) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب، برقم 4990، والترمذي، كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، برقم 2315، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، باب سورة النساء، برقم 11061، وفي باب سورة المطففين، برقم 11591،  وانظر: صحيح الترمذي، 2/268.
([37]) انظر: تطهير العيبة من دنس الغيبة، لأحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي، ص54، بتحقيق مجدي السيد إبراهيم، وفتاوى ابن تيمية، 28/236- 238، و28/222 - 238.
([38]) أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب في قلة الكلام، برقم 2319، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب الرقائق، برقم 11769،  وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم 3969،  ومالك في الموطأ، 2/985، وأحمد، 3/469، وانظر: صحيح الترمذي، 2/269، وصحيح ابن ماجه، 2/358، وصحيح الجامع، 2/63، وعزاه أيضاً للحاكم، وابن حبان.
([39]) انظر: تطهير العيبة من دنس الغيبة، لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، ص 47.
([40]) انظر: تطهير العيبة من دنس الغيبة، ص62.
([41]) سورة النساء، الآية: 148.
([42]) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع، برقم 2211، ومسلم، كتاب الأقضية، باب قضية هند، برقم 1714.
([43]) فيه تأويلان: أحدهما: أنه كثير الأسفار.
    والثاني: أنه كثير الضرب للنساء، وهذا أصح. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم.
([44]) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، برقم 1480.
([45]) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي r فاحشاً ولا متفحِّشاً، برقم 6032،  ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب مداراة من يتقى فحشه، برقم 2591 .
([46]) أخرجه البخاري، كتاب الأدب. انظر: فتح الباري، 10/ 468.
([47]) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع، برقم 2211، ومسلم، كتاب الأقضية، باب قضية هند، برقم 1714.
([48]) ومن الأدلة على ذلك حديث فاطمة بنت قيس المتقدم ذكره وفيه: ((أمّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له...)). الحديث في صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، برقم 1480.
([49]) شرح النووي، 16/142، والأذكار للنووي، ص 292.
([50]) سبق تخريج حديث عروة بن الزبير عن عائشة في جواز اغتياب أهل الفساد والريب.
([51]) أي من حديث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله r فقال: ((ائذنوا له بئس أخو العشيرة - أو ابن العشيرة - )) فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام، قال: ((أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه)). البخاري، برقم 6032، ومسلم، برقم 2591، وتقدم تخريجه.
(1)  الفتح، 10/471.
([52]) العقيدة الطحاوية، مقدمة الألباني، ص43.

ليست هناك تعليقات: